الصفحات

الجمعة، 31 مايو 2013

الوهابية تستشهد بمتون منكرة لتثبت النزول الحركى


ا
نزول رحمته أونزول ملائكته
الوهابية تستشهد بمتون منكرة لتثبت النزول الحركى 
قال د. صهيب الصقار في التجسيم في الفكر الإسلامي (2/ 170): "لكن القوم لما أحضروا مع هذه الأحاديث (أي أحاديث النزول الصحيحة) متوناً منكرة نفَرَت أذهانهم من هذا الفهم الصحيح (أي أن المراد نزول رحمته أو ملائكته)، لِما وجدوه في هذه المتون من تقوية الظاهر وتأكيد المعنى الموهم، حتى تكلم القوم في نزوله بذاته على سبيل الانتقال والحركة وخلو العرش منه وتدرجِه في النزول بين السموات وهبوطه وصعوده وارتفاعه بعد النزول وغير ذلك مما دفعهم إلى الخوض فيه ما جمعوه مع الأحاديث الصحيحة من الأسانيد الواهية والمتون المنكرة التي تُعِّين الظاهر الموهم وتوجب الحمل عليه.
فأعدل الطرق في ذلك أن نميز الصحيح ونطلب له المعنى الذي يصح حمله في اللغة والشرع ونطرحَ الواهي والمنكر لا أن نجعله حكماً على دلالة الصحيح.

ومن هذه المتون المنكرة ما أخرجه عبد الله بسنده (عن ثوير عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له أبو الخطاب أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوتر؟ فقال أحب أن أوتر نصف الليل إن الله عز وجل يهبط من السماء العليا إلى السماء الدنيا فيقول هل من مذنب هل من مستغفر هل من داع حتى إذا طلع الفجر ارتفع) (1)
إسناده ضعيف وذكر الهبوط والارتفاع في متنه منكر. ولا يخفى بعد ما بين لفظ الهبوط ولفظ التنزل في هذا السياق، فلفظ الهبوط شديد الانحراف إلى الظاهر الحسي بخلاف لفظ التنزل الذي لا يكاد يخفى وجه استعماله العربي في هذا السياق إلا على من حرمه غلبة الحس على ذهنه من تذوق أساليب العربية، حتى عدَّ لفظَ التنزل مرادفاً للفظ الهبوط الذي يعقبه الارتفاع والصعود.
ومنها خبر عن عبيد بن عمير
__________
(1) 2/476(1089). ثوير بن أبى فاختة أبو الجهم الكوفى، ضعيف رمى بالرفض انظر ترجمته فى تهذيب التهذيب 2/36. وأبو الخطاب لا يوقف على اسمه ذكره ابن حجر في الإصابة 7/108 وذكر هذا الحديث في ترجمته.
**************************************
قال ابن القيم: (ذكر عبد الله بن أحمد في كتاب السنة من رواية حجاج عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير قال ينزل الرب عز وجل شطر الليل إلى السماء فيقول من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له حتى إذا كان الفجر صعد الرب عز وجل) (1) وليس في كتاب السنة هذه الزيادة المنكرة في آخره (2)
ومما استدل به من يسميه ابن تيمية شيخَ الإسلام الهروي (3) ما ذكره الذهبي فقال:
(حديث الفاروق من طريق يحيى بن زكريا السيء بمرو حدثنا العلاء بن عمرو حدثنا جرير عن ليث بن أبي سليم عن بشر عن أنس قال قال رسول الله إذا نزل الله إلى سماء الدنيا نزل على عرشه.

هذا إسناد ساقط. وبشر لا ندري من هو وقد قال ابن منده (4) روى نعيم بن حماد عن جرير بهذا لكن لفظه إذا أراد أن ينزل على عرشه نزل بذاتهولعل هذا موضوع) (5)
__________
(1) اجتماع الجيوش 163 و170. وانظر الاحتجاج به في معارج القبول1/180 والتحفة المدنية في العقيدة السلفية 75 والفواكه العذاب 114
(2) السنة1/272(507) قال عبد الله بن أحمد: (أخبرت عن حجاج بن محمد عن ابن جريج قال قلت لعطاء فذكر حديثا وأما سبحان الملك القدوس فبلغني حسبت أنه يخبر ذلك عن عبيد بن عمير قال ينزل الرب عز وجل شطر الليل إلى السماء الدنيا فيقول من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له) فهذا سند فيه مجهول وهو شيخ المصنف.
(3) ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري 13/468 عدداً من الأخبار التي استدل بها الهروي في كتابه الفاروق وتكلم على أسانيدها.
(4) في كتابه الذي ذكره ابن تيمية في شرح حديث النزول ضمن مجموع كتبه ورسائله في العقيدة ونقل منه وهو 5/132 واسمه (الرد على من زعم أن الله فى كل مكان وعلى من زعم أن الله ليس له مكان وعلى من تأول النزول على غير النزول)
(5) العلو للعلي الغفار1/90. وقال: (..هذا إسناد ساقط) وهو في المصنوع51 وكشف الخفا 1/80
قال وليد: فانظر كيف أخذوا بهذه الروايات المنكرة والساقطة وتركوا روايات أقوى منها بكثير تزيل الإشكال، فقد قال القرطبي بعد أن روى حديث النزول في كتابه الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي، ط/ الرسالة (5/ 60): "وقد اختُلف في تأويله، وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسرا عن أبى هريرة وأبي سعيد رضى الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عزوجل يمهل حتى يمضى شطر الليل الاول ثم يأمر مناديا فيقول هل من داع يستجاب له هل من مستغفر يغفر له هل من سائل يعطى ".صححه أبو محمد عبد الحق، وهو يرفع الاشكال ويوضح كل احتمال، وأن الاول من باب حذف المضاف، أي ينزل ملك ربنا فيقول.وقد روى " ينزل " بضم الياء، وهو يبين ما ذكرنا، وبالله توفيقنا."
************************************
وقال ابن عبد البر في زيادة هذه اللفظة: (وقال آخرون ينزل بذاته، .. قال نعيم بن حماد في حديث النزول يرد على الجهمية قولهم: ينزل بذاته وهو على كرسيه.
قال أبو عمر ليس هذا بشيء عند أهل الفهم من أهل السنة لأن هذا كيفية وهم يفزعون منها لأنها لا تصلح إلا فيما يحاط به عياناً، وقد جل الله وتعالى عن ذلك وما غاب عن العيون فلا يصفه ذوو العقول إلا بخبر، ولا خبر في صفات الله إلا ما وصف نفسه به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فلا نتعدى ذلك إلى تشبيه أو قياس أو تمثيل أو تنظير فإنه "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير") (1)
د/وليد الزبر

منهج السلف فى المتشابه


 منهج السلف في المتشابه
منهج الإمام مالك رحمه الله
في ما تشابه من نصوص القرآن والسنة
بحث
أعده الدكتور
صهيب محمود السقار

قال الله تعالى:
(هو الذي أنزل عليك الكتب منه آيات محكمت هن أم الكتب وأخر متشابهت فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشبه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألبب) (7)
سورة آل عمران
واقع المسلمين اليوم يدعو إلى دراسة المنهج العلمي الرصين في التعامل مع ما تشابه من نصوص القرآن والسنة.
فقد فتن بعض شباب المسلمين في هذا العصر بكثرة الكتيبات والمطويات التي تنسب بسبب الاختلاف في هذه المسألة كثيرا من علماء المسلمين إلى البدعة ومخالفة السنة والزيغ في العقيدة.
ومازال المشفقون على أمة محمد صلى الله عليه وسلم يتحرجون من الخوض في هذه المسألة تجنبا لإثارة الفتنة بين المسلمين. ولكن لم يعد هذا التحرج مقبولا فقد تأثر كثير من العوام بما فيها من سوء الظن بأكابر العلماء والفقهاء والمحدثين.
ومن العجب أن الطعن بالعلماء قد استشرى بين من يدعي الانتساب إلى الحديث الشريف والاقتداء بالسلف حتى شمل بعض أئمة السلف والحديث. فلم يسلم من طعنهم كبار المحدثين الذين لم يعرفوا طوال تاريخنا الفكري إلا بالإمامة واتباع السنة كالحافظ البيهقي(458هـ)([1])( والحافظ النووي(676هـ(
([2]) والحافظ ابن حجر(852هـ(
([3]) وأمثالهم. فما أعجب أن ينسب أمثال هؤلاء إلى البدعة والزيغ في الاعتقاد وقد أفنوا أعمارهم في خدمة السنة، وتطاولت أزمان وتعاقبت أجيال والأمة لا تذكرهم إلا بخير ما يذكر به أهل حديث النبي صلى الله عليه وسلم. حتى نبتت هذه النابتة الخطيرة. وما نقموا منهم إلا الخلاف في هذه المسألة.
ومما يدل على أهمية هذه المسألة ويشهد على أن رفع الخلاف فيها يرفع الخلاف في غيرها أن ابن تيمية رحمه الله تعالى حكى مناظرة دعاه إليها أحد المخالفين له فقال:(...فتواعدنا يوما فكان فيما تفاوضنا أن أمهات المسائل التي خالف فيها متأخرو المتكلمين ممن ينتحل مذهب الأشعرى لأهل الحديث ثلاثُ مسائل: وصف الله بالعلو على العرش، ومسألة القرآن، ومسألة تأويل الصفات. فقلت له نبدأ بالكلام على مسألة تأويل الصفات، فإنها الأم والباقى من المسائل فرع عليها ([4]) (
فما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يعيدوا النظر في هذه المسألة ليعرفوا مدى الحرج والإثم الذي وقع به من أعمل في المسلمين معول التبديع والسب والتفريق. وهل يستحق الخلاف في هذه المسألة أن يرتب عليه أحد المعاصرين حكما قال فيه:(أما كون الأشاعرة لم يخرجوا عن الإسلام فهذا صحيح، هم من جملة المسلمين وأما أنهم من أهل السنة والجماعة فلا لأنهم يخالفون أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات من غير تأويل ([5])( وهل نقبل قول ابن القيم ..بل الذي بين أهل الحديث والجهمية من الحرب أعظم مما بين عسكر الكفر وعسكر الإسلام ([6])(
وقد لاحظت أن ابن تيمية رحمه الله تعالى ومن تابعه على رأيه في هذه المسألة يعترفون للإمام مالك رحمه الله تعالى بالإمامة ولا ينازعون في عده من جملة السلف الصالح. ووجدتهم يكثرون من النقل عنه في هذه المسألة ويرضون بالتحاكم إليه، ثم لاحظت بعد ذلك أنهم لم يتحروا في النقل عنه ولم يصيبوا في الفهم عنه أيضا. وقد أفرد أحد المعاصرين بحثا خاصا لتلك الحادثة المشهورة التي سئل فيها الإمام عن الإستواء، وساعدنا الباحث بذكر الدوافع التي شجعته على هذه الدراسة فذكر أنَّ هذا الأثر قد تلقّاه الناس بالقبول فقال:
(أولا: هذا الأثر قد تلقّاه الناس بالقبول فليس في أهل السنة والجماعة من ينكره، كما يذكر ذلك شيخُ الإسلام ابنُ تيمية - رحمه الله -([7]) بل إنَّ أهل العلم قد ائتمّوا به واستجودوه واستحسنوه([8]) .
ثانياً: أنَّه من أنبل جواب وقع في هذه المسألة وأشدّه استيعاباً
...([9])
ثالثاً: أنَّ قوله هذا ليس خاصّاً بصفة الاستواء، بل هو بمثابة القاعدة التي يمكن أن تُقال في جميع الصفات ([10])(
ثم لاح لي بعد هذا الاتفاق سبيل يرفع النزاع في هذه المسألة الموصوفة بكونها كالأم لما سواها من المسائل. خاصة بعد أن اتفق الفريقان على أن قول الإمام فيها هو القاعدة وهو القول الأنبل. فإذا اتفقنا على ذلك فقد تعين تحرير النقل وتصحيح الفهم عن الإمام ليرتفع الخلاف والنزاع ولا يبقى لمسلم عذر في نهش علوم الأكابر أو في السكوت على ذلك.
وأول خطوة في هذه السبيل أن نجهر معهم بالاعتراف بما اعترفوا به للإمام وأن نشهد على ما شهدوا له به وأن نشد على أيديهم في الدعوة إلى الإقتداء به في هذه المسألة.
وأن نشير إلى شهادات السلف والسلفيين التي تعزز الاستمساك برأي الإمام.
ولنقدم لذلك كله بلمحة سريعة نبحث فيها عن أول ظهور لهذه المسألة في تاريخنا الفكري وعن الموضع الذي تشعبت منه الآراء والمناهج. على أن نزن هذه المذاهب بميزان الدليل، ونقارن كلا منها بما صح سنده عن الإمام في هذه المسألة حتى نتبين الموافق منها والمخالف.
ويتعين تفصيل هذا القول في نقاط.
أولا: لمحة في ظهور هذه المسألة وظهور الاختلاف فيها.
ثانيا: شهادة كبار المحدثين للإمام بما يعزز التحاكم إلى رأيه في هذه المسألة:
ثالثا: رأي الإمام مالك رحمه الله تعالى في هذه المسألة.
[أولا]:
لمحة في ظهور هذه المسألة وظهور الاختلاف فيها.
لا يخفى على أحد ما أحدثه اختلاطُ العرب بالعجم في صدر الرسالة من آثار في الفكر الإسلامي من جهة وفي اللغة العربية من جهة أخرى. فلما دخل في دين الإسلام أفواجٌ من أمم لم يتذوقوا بيان العربية وقفوا على بعض الألفاظ القرآنية مجردةً عن سياقها وسباقها، مثل قوله تعالى:
(ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) ،
وقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)
ونحو ذلك من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.
فحمل بعضهم مثل هذه النصوص المتشابهة على ظاهرها وربطوا بين هذا الفهم وبين ما كانوا عليه من الاعتقاد في ذات الله عز وجل المختلط بالوثنية أو اليهودية المحرفة أو غيرها من العقائد الفاسدة. وصار وجود هذه الألفاظ في حقهم موهما لتشبيه الباري وتجسيمه.
ولهذا كان في السلف من ينكر التحديث بمثل هذه الأحاديث الموهمة إشفاقاً على هؤلاء العجم مِن توهمِ التجسيم.
وفي ذلك يقول القاضي عياض(544هـ) رحمه الله: 
(..رحم الله الإمام مالكاً فلقد كره التحديث بمثل هذه الأحاديث الموهمة للتشبيه والمشكلةِ المعنى.. والنبي صلى الله عليه وسلم أوردها على قوم عرب يفهمون كلام العرب على وجهه وتصرفاتهم في حقيقته ومجازه واستعارته وبليغه وإيجازه فلم تكن في حقهم مشكلة، ثم جاء من غلبت عليه العجمة وداخلته الأمية فلا يكاد يفهم من مقاصد العرب إلا نصَّها وصريحها..فتفرقوا في تأويلها أو حملها على ظاهرها شذر مذر فمنهم من آمن ومنهم من كفر) (([11] 
وأول ظهور للخوض في هذه النصوص ينسب إلى مقاتل بن سليمان(150هـ) الذي جهر بمقالة التشبيه في خراسان
فقال:
 إن الله جسم وله جوارح وأعضاء من يد ورجل وعينين.
وفي خراسان أيضا ظهر أول إنكار لمقالة مقاتل، إذ قام الجهم بن صفوان بالرد على مقاتل غير أنه أفرط في النفي كما أفرط خصمه في الإثبات. وجرت بين الفريقين مناظرات انتقل صداها إلى علماء المسلمين من السلف الصالح رضوان الله عليهم لما سارع العوام إليهم يسألون عن الحق في ما أحدثه هذا النزاع.
وفي ذلك يقول الإمام أبو حنيفة(150هـ) رحمه الله: 
(أتانا من المشرق رأيان خبيثان، جهمٌ معطلٌ ومقاتلٌ مشبه( ([12])
وكان موقف السلف في أول ظهور هذه البدعة يقتصر على إظهار الطعن والبراءة من الخائض فيها من الفريقين كما سبق عن الإمام أبي حنيفة([13])

ولعل موقف الإمام مالك من أبرز المواقف التي تمثل هذا الموقف في تلك الحادثة المشهورة التي أخرجها البيهقي: 
(أن رجلاً دخل على الإمام مالك فقال: يا أبا عبد الله " الرحمن على العرش استوى " كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرُّخصاء، ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجلُ سوءٍ صاحبُ بدعةٍ، أخرجوه، فأُخرج الرجل)
وفي رواية :(والكيف غير معقول ([14]) (
ولكن لما عمت البلوى وانتشرت البدعة نهض العلماء لقمعها وخاضوا في ما كرهوا الخوض فيه، وكانوا أغنى الخلق عن هذا البحث لولا انتشار البدعة، ولم يعد مقبولاً سكوت الأمة عن هذه البدعة فتعين على بعضها الفرض الكفائي في الذب عن السنة ومحاربة هذه البدعة.
واتفق الجميع على ترك السكوت فتكلم في ذلك من المحدثين والفقهاء والمتكلمين مَن تكلم حتى كثر فيه الكلام والاختلاف وتمايزت فيه فرقٌ ومقالات صارت مستقلة معروفة فيما بعد. وتباينت المواقف في القرب من أحد المذهبين. فظهرت المعتزلة التي أنكرت القول بالتجسيم والتشبيه ومالوا إلى رأي الجهم في نفي بعض الصفات والقول بخلق القرآن، ولما أفرط المعتزلة بالنفي قابلهم بعض المحدثين بالغلو في الإثبات فأثبتوا بعض الأخبار الواهية المنكرة وجمعوا الصحيح مع الضعيف المنكر في مصنفات جمعوا فيها ما يسمونه أخبار الصفات. ولم يكن هذا الإفراط المقابل بالتفريط إلا وبالاً على فكر المسلمين، تعمَّق به الخلاف والتنازع، واشتد به الصراع الفكري، وبعدت الشقة بين المتنازعين حتى أقبل القرن الرابع الهجري، وظهرت فيه التيارات الوسطية المعتدلة في عدد من بقاع العالم الإسلامي
فظهرت الطحاوية في مصر على يد أبي جعفر الطحاوي،([15]) والماتريدية في سمرقند نسبة إلى الإمام أبي منصور الماتريدي،([16])
والأشاعرة في بغداد على يد الإمام أبي الحسن الأشعري.
واستطاع المذهب الأشعري أن يسود ويغلب لأنه نشأ في عاصمة الخلافة بغداد وملتقى علماء الأمة ورجالها فسهل الله له منهم من يقوم بنصرة المذهب وتنقيحه وتأصيله.
وبظهور المذهب الأشعري انحسر تيار المعتزلة وتوالف المحدثون والحنابلة مع المتكلمين الأشاعرة. وانحصر خلاف العقلاء المتنزهين عن الهوى والعصبية في مثل تلك النصوص الموهمة في مسلكين:
التفويض والتأويل، وأقام الأشاعرة هذين المسلكين على ثوابت العقل وصحيح النقل وشواهد العربية، ثم ظهر في الأمة من اختار مذهباً ملفقاً غير منضبط ولا ضابط وأغرب في عزو هذا المذهب المتأخر المستحدث إلى السلف الصالح. فلا بد من الحديث عن هذه المسالك الثلاثة.

ثانيا:
مسالك العلماء في هذه المسألة
المسلك الأول:

تفويض العلم بالمراد إلى الله عز وجل.
والمراد به الإيمان بما ورد مع صرف اللفظ الموهم عن ظاهره وردِّ العلم بالمراد منه إلى الله تعالى([17])
وهذا التفويض لابد فيه من أمور:
الأول: تنزيه الله عز وجل تصديقاً لقوله تعالى:
( ليس كمثله شيء (11)( سورة الشورى
الثاني: التصديق بما جاء في القرآن والسنة الصحيحة، وأنه حق على المعنى الذي أراده الله ورسوله.
الثالث: الاعتراف بالعجز عن معرفة ذات الله عز وجل والإحاطة بوصفه.
الرابع: السكوت عما سكت عليه السابقون الأولون، والكف عن السؤال عنه كما كفوا.
الخامس: الإمساك عن التصرف في تلك الألفاظ بتفسير أو ترجمة أو اشتقاق أو تفريع وقياس.
ونمسك عن تجريد اللفظ عن سياقه وسباقه لأن كل كلمة سابقةٍ ولاحقةٍ تؤثر في إفهام المراد فإذا انتهينا إلى قول الله عز وجل: (وهو القاهر فوق عباده (18)( سورة الأنعام
فلا نقول : هو فوق عباده لأن لفظ القاهر قبله يشير إلى فوقية الرتبة والقهر، كما قال تعالى على لسان فرعون :
( وإنا فوقهم قاهرون"(127)( من سورة الأعراف
ونزعُ لفظِ القاهر يعطل هذا المعنى الذي يحتمله السياق احتمالاً قوياً ويوهم فوقيةً غيرَها لم يكن ليُفطن إليها لولا هذا التجريد عن السياق.([18])
المسلك الثاني: 
تفويض الكيفية
ومبنى هذا المسلك على إثبات الألفاظ الموهمة وعدِّها من صفات الله عز وجل وإثباتِ الكيفية مع نفي العلم بهذه الكيفية وتفويض العلم به إلى الله، وهو مشهور في مذهب ابن تيمية رحمه الله([19]) 
ويبنون هذا المسلك على ما ينسبونه إلى الإمام مالك رحمه الله أنه قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول.([20])
المسلك الثالث: 
التأويل
ويراد به في هذه المسألة القطع بصرف اللفظ عن ظاهره الموهم مع بيان المعنى الذي يُظَن أنه مقصود([21]) ويقوم هذا المذهب على أسس نذكر منها:
أولاً: أنه لا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره إلا عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال ممتنع ([22]) مثال ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ([23])
( قال الغزالي(505هـ): 
(حمله على الظاهر غير ممكن...إذ لو فتشنا عن قلوب المؤمنين لم نجد فيها أصابع فَعُلِمَ أنها كناية عن القدرة التي هي سر الأصابع، وكنِّي بالأصابع عن القدرة لأن ذلك أعظم وقعاً في تفهم تمام الاقتدار ([24]).(
أما إذا كان إجراؤه على الظاهر غير محال فلا يجوز تأويله، ولذلك أنكر الغزالي على المعتزلة أنهم أولوا ما ورد من الأخبار في أحوال الآخرة كالميزان والصراط وغيرهما وقال:
(هو بدعة، إذ لم ينقل ذلك بطريق الرواية، وإجراؤه على الظاهر غير محال فيجب إجراؤه على الظاهر ([25])(
ثانياً: يشترط لصحة التأويل أن يكون موافقاً لأساليب اللغة وعرف الاستعمال جارياً على ما يقتضيه لسان العرب وما يفهمونه في خطاباتها.([26])
ثالثاً: يشترط لصحة التأويل أن لا يخالف أصلاً ثابتاً ([27]) ومن هذا التأويل المخالف تأويل الاستواء بالاستقرار. لأنه لا يخفى أن في الاستقرار تشبيهاً بالمخلوق، ومفارقةً لتنزيه الباري عزّ وجلّ([28])
وإذا فرغنا من الكلام على هذه المسالك فقد تهيأ المقام لبيان ما اتفق عليه أهل هذه المسالك من الانتساب إلى الإمام مالك رحمه تعالى ومتابعته في هذه المسألة والتحاكم إلى رأيه فيها. 
[ثانيا]: 
شهادة كبار المحدثين للإمام بما يعزز التحاكم إلى رأيه في هذه المسألة:
لن نطيل بنقل ما اتفق عليه العلماء من إمامة مالك بن أنس وشهاداتهم لمن سار على منهجه باتباع السنة والسلف، فالذي يسعنا في هذا المقام أن نكتفي من ذلك برأي بعض المحدثين المشهود لهم في عصرنا بالسلفية أصالة أو اتباعا.
فمن ذلك أن الحافظ اللالكائي(418هـ) السلفي ترجم للإمام في سياق من رسم بالإمامة في السنة والدعوة والهداية إلى طريق الاستقامة([29])
ونقل الحافظ الذهبي السلفي عن كثير من السلف ما يحتاج إليه في هذا المقام فمن ذلك
أنه نقل عن إسحاق بن راهويه(238هـ) أنه قال:( إذا اجتمع الثوري ومالك والأوزاعي على أمر فهو سنة وإن لم يكن فيه نص)([30])
..وقال الذهبي:(وقد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره أحدها طول العمر وعلو الرواية وثانيتها الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم، وثالثتها اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية،
ورابعتها تجمعهم على دينه وعدالته واتباعه السنن ، وخامستها تقدمه في الفقه والفتوى، وصحة قواعده)([31])

وترجم له في السير فأكثر من نقل ثناء العلماء عليه ومن ذلك قوله: (هو شيخ الإسلام حجة الأمة إمام دار الهجرة..وعن ابن عيينة قال: مالك عالم أهل الحجاز وهو حجة زمانه 
وقال الشافعي - وصدق وبر- إذا ذكر العلماء فمالك النجم...
, قال الشافعي العلم يدور على ثلاثة مالك والليث وابن عيينة...
وروي عن الأوزاعي أنه كان إذا ذكر مالكا يقول عالم العلماء ومفتي الحرمين
وقال ابن معين (233هـ) مالك من حجج الله على خلقه)([32])
ولعل هذا هو الذي يتسع له المقام في ترجمة الإمام. وما أحوجنا الآن إلى التنقيب عن رأيه قي هذه المسألة الأم والتمسك بمذهبه فهو شيخ الإسلام و حجة الأمة وإمام دار الهجرة الذي أجمع العلماء على دينه وعدالته واتباعه السنن.
[ثالثا]: 
رأي الإمام مالك رحمه الله تعالى في هذه المسألة.
أولا: نقد ما ينسبونه إلى الإمام من جهة السند:
من الملاحظ أن المخالفين في هذه المسألة اعتمدوا في فهم رأي الإمام على ما ينسبونه إليه من قوله لذلك السائل :
(الاستواء معلوم والكيف مجهول) 
وتدل هذه العبارة عندهم على إثبات الكيفية وتفويض العلم بها إلى الله عز وجل.وهذا فهم لا يثبت من حيث النقل 
ومن الملاحظ أن الروايات تعددت واختلفت في هذه الحادثة الواحدة اختلافا شديدا. ففي بعضها يعد الاستواء معلوما وتقابلها روايات يعد فيها الاستواء مجهولا. وبعضها يعد الكيف مجهولا ويقابله روايات تعد الكيف مرفوعا. ولن أطيل بتخريج هذه الروايات لأن الغرض يتحقق بتعقب ما ما ذكره الباحث عبد الرزاق البدر الذي تكلف في فهم مذهب الإمام مقتصرا على دراسة هذه الحادثة فجمع ما أمكنه الوقوف عليه من هذه الروايات المختلفة المتعارضة. ولم يفرق بين رواية الثقات وروايات من وافقهم من ضعاف الحفظ ومن خالفهم من الضعفاء. بل خلط الجميع خلطا واحدا وزعم أن ما ضعف من أسانيد هذه الروايات يتقوى بما صح من أسانيدها. وليس هذا من النقد الحديثي في شيء. فالواجب يقتضي مع هذا التعارض الواضح أن نعتمد على الأسانيد الصحيحة وأن نعد ما عارضها من باب المنكر أو الشاذ. وأن نفرق بين موافقة الثقات ومخالفتهم، فمن وافقهم فقد فاز بهذه الموافقة التي تجبر كسره وتؤكد نقله، ومن خالفهم من الضعاف صارت مخالفتهم مؤكدا لتضعيف روايته.
ولبيان ذلك نقول:
وجدنا سبع روايات عن الإمام تتفق على نفي الكيف عن الله عز وجل. صح ذلك من طريقين عن الإمام. وشهد لها رواية ثلاثة عن الإمام بإسناد جيد في تقوية. ومجموع هذه الروايات الخمسة يشهد لصحة روايتين صالحتين للتقوي والاعتبار. فاجتمع من ذلك سبع روايات تشدد الحكم بالنكارة على الرواية التي تعارضها بإثبات الكيف. 
ونبدأ بأصح هذه الأسانيد وهي رواية عبد الله بن وهب([33])
قال الحافظ البيهقي: (أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أحمد بن محمد بن إسماعيل بن مهران([34])، ثنا أبي([35])، حدّثنا أبو الربيع بن أخي رشدين ابن سعد([36]) قال: سمعت عبد الله بن وهب يقول: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال: يا أبا عبدالله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استواؤه؟، قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه فقال:"الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه)، قال : فأُخرج ([37]).
وقد صحح هذه الرواية الحافظ الذهبي في العلوّ فقال:
( وساق البيهقي بإسناد صحيح عن أبي الربيع الرشديني عن ابن وهب... ([38]).( وجود الحافظ ابن حجر إسنادها([39]).

ويليها رواية يحيى بن يحيى التميمي([40])
قال البيهقي رحمه الله: (أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الفقيه الأصفهاني([41])، أنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيَّان المعروف بأبي الشيخ([42])، ثنا أبو جعفر أحمد بن زيرك اليزدي: سمعت محمد بن عمرو بن النضر النيسابوري([43]) يقول: سمعت يحيى بن يحيى يقول: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} فكيف استوى؟،
قال: فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال:"الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلاّ مبتدعاً. فأمر به أن يُخرج ([44]) (.
وذكرها الحافظ الذهبي ثم قال :
(هذا ثابت عن مالك (
[45])(.
وهذه الرواية توافق الرواية السابقة التي قال فيها:
(والكيف عنه مرفوع) 

وهي تدل على نفي الكيف عن الله وصفاته.
كما نبه عليه أتباع الإمام، 

من ذلك قول القرافي: (ومعنى قول مالك الاستواء غير مجهول أن عقولنا دلتنا على الاستواء اللائق بالله وجلاله وعظمته وهو الاستيلاء دون الجلوس ونحوه مما لا يكون إلا في الأجسام. وقوله والكيف غير معقول معناه أن ذات الله لا توصف بما وضعت له العرب لفظ كيف، وهو الأحوال المتنقلة والهيئات الجسمية..فلا يعقل ذلك في حقه لاستحالته في
جهة الربوبية ([46])(
ويليها رواية سفيان بن عيينة([47]) ورجالها ثقات.
قال القاضي عياض:

( قال أبو طالب المكي: كان مالك- رحمه الله - أبعدَ الناس من مذاهب المتكلِّمين، وأشدَّهم بُغضاً للعراقيين، وألزَمَهم لسنة السالفين من الصحابة والتابعين، قال سفيان بن عيينة: سأل رجلٌ مالكاً فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى يا أبا عبد الله؟، فسكت مالكٌ مليًّا حتى علاه الرحضاء، وما رأينا مالكاً وجد من شيء وجده من مقالته، وجعل الناس ينظرون ما يأمر به، ثمَّ سُريَّ عنه فقال:"الاستواء منه معلوم، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، والإيمان به واجب، وإني لأظنُّك ضالاًّ، أخرجوه". فناداه الرجل: يا أبا عبد الله، والله الذي لا إله إلاَّ هو، لقد سألتُ عن هذه المسألة أهلَ البصرة والكوفة والعراق، فلم أجِد أحداً وُفِّق لما وُفِّقت له ([48])(.
ثم رواية محمد بن النعمان بن عبد السلام التيمي([49]).
أخرجها أبو الشيخ الأنصاري في كتابه طبقات المحدّثين بسنده عنه أنه قال :
( أتى رجل مالكَ بنَ أنس فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، قال: فأطرق، وجعل يعرق، وجعلنا ننتظر ما يأمر به، فرفع رأسه، فقال:"الاستواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلاّ ضالاًّ، أَخرجوه من داري) ([50])
وقد ساعدنا الدكتور البدر على قبولها فقال : (إسنادها جيّد(.
ثم رواية الإمام سحنون([51]) عن بعض أصحاب مالك.
قال ابن رشد في البيان والتحصيل:
(قال سحنون: أخبرني بعض أصحاب مالك أنَّه كان قاعداً عند مالك فأتاه رجل فقال:"يا أبا عبد الله مسألة؟، فسكت عنه ثم قال له: مسألة؟، فسكت عنه، ثم عاد فرفع إليه مالك رأسَه كالمجيب له، فقال السائل: يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى}، كيف كان استواؤه؟ فطأطأ مالك رأسَه ساعة ثم رفعه، فقال:"سألتَ عن غير مجهول، وتكلّمتَ في غير معقول، ولا أراك إلاَّ امرأ سوء، أَخرِجوه ([52])( .
ويلي هذه الروايات روايتان صالحتان للاعتبار 
الأولى: رواية جعفر بن ميمون([53])
أخرجها الإمام أبو إسماعيل الصابوني بسنده عنه أنه قال: سئل مالك بن أنس عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى}
كيف استوى؟، قال:"الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلاّ ضالاًّ، وأمر به أن يخرج من مجلسه) ([54]).
والثانية: رواية بشّار الخفّاف الشيباني([55]).
نقل الحافظ المزي في تهذيب الكمال عن ابن ماجه في التفسير أنه خرج هذه الرواية فقال:
(حدّثنا علي بن سعيد([56])، قال: حدّثنا بشّار الخفّاف أو غيره، قال:"كنت عند مالك بن أنس فأتاه رجل... وذكره) ([57]) .
وذكرها أبو المظفر السمعاني في تفسيره من غير شك في روايتها عن بشار الخفّاف([58])
فهذه الروايات تتضافر على نفي الكيف وتشدد الخطب على من خالف في إثباته.
وهذه المخالفة جاءت في روايتين 
الأولى: في إحدى الروايات عن مهدي بن جعفر([59])
أخرجها الحافظ أبو نعيم في الحلية بسنده عنه وفيها أن الإمام قال "الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول([60]). وفي رواية: :"الكيف غير معلوم"([61]).
وقد ساعدنا البدر على الاعتراف باضطراب مهدي بن جعفر في هذه الرواية فقال:(ومهدي بن جعفر صدوق له أوهام وقد اضطرب في روايته لهذه القصة، فرواها مرّة عن شيخه جعفر بن عبد الله عن مالك، ورواها مرّة أخرى عن شيخه جعفر عن رجل عن مالك، ورواها مرّة ثالثة عن مالك مباشرة ([62])
واضطرب في متن الرواية أيضا: فمرة يكون الاستواء غير مجهول ومرة يكون مجهولا.
ومرة يكون الكيف مجهولا ومرة يكون غير معقول.
فهذا اضطراب لا يحتمل ولو من غير تقدير مخالفته للثقات، فكيف يكون حالها مع الإضطراب ومخالفة الثقات؟
وكيف يصح في النقد قول الباحث :
(وهذا الاضطراب الذي في هذه الطريق لا ينفي صحة القصة؛ لأنَّها قد جاءت من طرق أخرى تعضدها وتقوِّيها( ؟ ([63]) وكيف يتقوى المضطرب برواية الثقات وهو يخالفهم؟!
فالصواب: 
أن نقبل من هذه الروايات الرواية التي وافق فيها الحفاظ، وأن ندع ما خالفهم فيها. لأنها رواية منكرة مضطربة.
والرواية الثانية :رواية سريج بن النعمان([64]) عن عبد الله بن نافع.
أخرجها الحافظ ابن عبد البر بسنده عن سريج بن النعمان، قال: حدّثنا عبد الله بن نافع، قال: قال مالك بن أنس:"الله عز وجل في السماء وعلمه في كلِّ مكان، لا يخلو منه مكان، قال: وقيل لمالك: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، فقال مالك - رحمه الله -: استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة([65])، وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء). ([66])
وهذه المخالفة إن كانت من سريج فلا تحتمل ولا تصمد أمام روايات الحفاظ التي توافق العقل والنقل والتنزيه.
ومثل ذلك إن كانت من عبد الله بن نافع([67])
والحاصل : 
أولا:أن هذه الروايات اختلفت في ذكر هذه القصة الواحدة، فعدل القول في مثل هذه الحال أن نعتمد على الروايات الصحيحة. 
فلا ننسب إلى الإمام موقفا يعتمد على المنكر ويغفل الصحيح، هذا إذا كان منهج الإمام في هذه المسألة لا يمكن استبيانه إلا من هذه الحادثة. فكيف إذا كان يصح عن الإمام ما يشهد لفهمنا لمنهجه ويخالف ما ينسبه إليه المخالف. ؟!
ثانيا: نفي الكيف هو المشهور المعروف من مذهب السلف، والذي يليق بالإمام أن يتفق مع الأئمة والسلف في هذه المسألة. ولم نسمع أحدا ينسب إلى الإمام مخالفة في هذه المسألة.
ثالثا: من المعروف أن من أتباع الإمام لم يرضوا بهذا المنهج الذي ينسب إلى الإمام. وهم أولى بالإمام وأعرف بمذهبه من غيرهم ، بل اختص المالكية من بين المذاهب الأربعة بالبراءة من الخوض في المتشابه.
قال ابن السبكي: 
(أنا أعلم أن المالكية كلهم أشاعرة لا أستثنى أحدا والشافعية غالبهمأشاعرة لا أستثنى إلا من لحق منهم بتجسيم أو اعتزال ممن لا يعبأ الله به،والحنفية أكثرهم أشاعرة أعنى يعتقدون عقد الأشعري لا يخرج منهم إلا من لحق منهم بالمعتزلة، والحنابلة أكثر فضلاء متقدميهم أشاعرة لم يخرج منهم عن عقيدة الأشعري إلا من لحق بأهل التجسيم ) ([68])
رابعا: لو سلمنا بصحة الرواية التي نسبوها إلى الإمام فلا نرضى بأن نجعل هذه العبارة شاهدا وحيدا على منهج الإمام. فقد صح عن الإمام أقوالٌ ومواقفُ في هذه المسألة تساعد على فهم منهجه. 
فمن ذلك: نهيه عن التحديث بهذه الأحاديث الموهمة كما حكاه عنه القاضي عياض.
ونقل الحافظ الذهبي عن ابن القاسم أنه قال: 
(سألت مالكا عمن حدث بالحديث الذين قالوا "إن الله خلق آدم على صورته" والحديث الذي جاء "إن الله يكشف عن ساقه" وأنه "يدخل يده في جهنم حتى يخرج من أراد" فأنكر مالك ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يحدث بها أحد ) ([69])
وقد حاول الذهبي أن يبرر هذا الإنكار فقال: 
( أنكر الإمام ذلك لأنه لم يثبت عنده ولا اتصل به فهو معذور... فقولنا في ذلك وبابِه الإقرارُ والإمرارُ وتفويضُ معناه إلى قائله الصادق المعصوم)
وهذا توجيه فيه نظر لأن السائل جمع هذه الأخبار المتشابهة ولم يسأل عن أسانيدها بل سأل عن المتون، ولا يخفى أن ضعف الرواية لا يستوجب الإنكار الشديد من الإمام على من حدث بها، ومن المعروف في مناهج المحدثين أن المحدث يبرأ من ضعف الحديث بذكر إسناده، وليس من منهجهم النهي عن التحديث بغير الصحيح،
وإنما يستحق هذا الإنكار إذا خيف على العوام الخوض فيها وعدم ردها إلى المحكمات من أدلة التنزيه.
خامسا: تتضح ملامح منهج الإمام من موقفه الصارم من الخوض في هذه النصوص فقد اشتد حاله لما سمع سؤال السائل فاقتصد في جوابه وزجره ونص على أن مجرد السؤال يعد بدعة موجبة لسخط العالم على السائل وطرده،
فما بالنا بمن خاض في هذه النصوص وحملها على غير ما تعارفت عليه العرب في خطاباتها وزاد على ذلك بإثبات الكيف؟
سادسا: ومن المأثور عن الإمام ما يوافق فهمَنا لمذهبه وقد نص الحافظ الذهبي على صحته عن الإمام فقال:
(والمحفوظ عن مالك رحمه الله رواية الوليد بن مسلم أنه سأله عن فقالأمروها كما جاءت بلا تفسير ([70]) ( وهذا المذهب المخالف لم يلتزم بإمرارها كما جاءت بل زاد على تفسيرها لما تصرف فيها بما يخالف أساليب العربية.
سابعا: فهمنا لمنهج الإمام هو الذي ينسجم مع ما يعرف به في مجلسه.
قال الذهبي:( كان مجلسه مجلس وقار وحلم قال وكان رجلا مهيبا نبيلا ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط وكان الغرباء يسألونه عن الحديث فلا يجيب إلا في الحديث بعد الحديث...
وعن ابن وهب سمعت مالكا يقول ليس هذا الجدل من الدين بشيء...
وعن ابن وهب قال قيل لمالك ما تقول في طلب العلم قال حسن جميل لكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح إلى أن تمسي فالزمه) ([71])
وهذا الذي ينسبونه إلى الإمام لا يكتفي بالحديث بل يزيد عليه بقوله له ساق وله أصابع ونحوها ويتعدى إلى إثبات الكيفية ويملأ الدنيا جدالا ولغطا في ما لا يلزم أحدا من المسلمين من مهده إلى قبره.
وحال عوام المسلمين يشهد بغفلتهم عن هذه الأخبار ولم يطعن أحد في إيمانهم وما علمنا أحدا من السلف في نشره لدين الله دعا الخلق إلى إثبات الساق والأصابع ونحوها.
ثامنا: اختار الإمام التأويل في بعض هذه الأخبار. ولا يخفى أن ثبوت التأويل في خبر واحد يعارض بالكلية مذهب من عد التأويل تعطيلا وإلحادا في صفات الله عز وجل. 
وفي المقابل لا يتعارض اختيار التأويل في موضع مع اختيار التفويض في موضع آخر.
ومن تأويل الإمام :
ما نقله الحافظ الذهبي عن حبيب بن أبي حبيب أنه قال: 
(حدثني مالك قال " يتنزل ربنا تبارك وتعالى" : يتنزل أمره فأما هو فدائم لا يزول)... ([72])
وننتهي إلى القول بأنه حق على كل من ادعى الانتساب إلى الإمام وشهد له بالإمامة واتباع السنة واستشهد بالنقل عنه في هذه المسألة أن يحرر نقله عنه وأن يتجرد في الفهم عنه.
وحق على من ينتسب إلى السلف ويتشرف بموافقة أهل الحديث أن يتحقق قبل أن يسرف على نفسه بالطعن على مذهب لا يصح عن السلف ولا عن أكابر المحدثين غيره. ولا يستقيم مع العقل والنقل واللغة غيره.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

..............................
..................([1]) انظر مقدمة رسالة أحمد بن على الغامدي وعنوانها البيهقي وموقفه من الإلهيات وهي رسالة دكتوراه في جامعة أم القرى 1402
([2]) انظر دعوة التوحيد للدكتور محمد خليل هراس 224 وفتاوى اللجنة الدائمة 3/163.
([3]) انظر نيل عبد الله بن إبراهيم آل حمد من الحافظ ابن حجر في تحقيقه لكتاب توفيق الرحمن لفيصل بن عبد العزيز آل مبارك 2/220 وقد رماه بمخالفة أهل السنة واتباع أهل البدع من الأشاعرة. وانظر نحوه في منهج الحافظ ابن حجر في العقيدة لمحمد إسحاق كندو131 وغمزه بأنه كان ذا عقيدة يشوبها التمشعر.
([4]) انظر كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في العقيدة 6/ 354-355
([5]) تنبيهات على مقالات الصابوني 62. ومثلُه قولُ ابن باز رحمه الله:(فالأشاعرة وأشباههم لا يدخلون في أهل السنة في إثبات الصفات لكونهم قد خالفوهم في ذلك وسلكوا غير منهجهم)؟ انظر تنبيهات في الرد على من تأول الصفات 42.
([6]) اجتماع الجيوش الإسلامية 154 وانظر الصواعق المرسلة 4/1333
([7]) مجموع الفتاوى (13/309).
([8]) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/520)
([9]) انظر: مجموع الفتاوى (5/520).
([10]) انظر(الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء) دراسة تحليلية بقلم عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر ص 1-4
([11]) الشفا 2/542.
([12]) انظر تاريخ بغداد 13/164.
([13]) وانظر نحو هذا الموقف عن غيره من السلف في السنة لعبد الله بن أحمد 1/108.
([14]) الأسماء والصفات 515.
([15]) هو أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفرالطحاوي المصري الفقيه الحنفي، وكان ثقة نبيلا فقيها له كتاب شرح الآثار (321هـ) وهو صاحب العقيدة المشهورة بالعقيدة الطحاوية، صحب المزني وتفقه به ثم ترك مذهبه وصار حنفي المذهب انظر طبقات الحنفية1/102
([16]) هو محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي من كبار العلماء كان يقال له إمام الهدى له كتاب التوحيد وكتاب المقالات وكتاب تأويلات القرآن وهو كتاب لا يوازيه فيه كتاب بل لا يدانيه شيئ من تصانيف من سبقه فى ذلك الفن، مات سنة 333هـ. انظر طبقات الحنفية 1/130
([17]) انظر شرح جوهرة التوحيد للباجوري 149.
([18]) انظر إلجام العوام لحجة الإسلام الغزالي 64-84
([19]) انظر مجموع الفتاوى 13/309 ودرء التعارض 5/234
([20]) انظر مجموع الفتاوى 13/309
([21]) انظر شرح الجوهرة، الباجوري 149.
([22]) انظر أساس التقديس، الرازي 182. والإرشاد، الجويني 160.
([23]) صحيح مسلم 4/ 2045-2654)
([24]) انظر قواعد العقائد، مع إحياء علوم الدين 1/102.
([25]) المصدر السابق، نفس الصفحة. وانظر الاقتصاد في الاعتقاد 18.
([26]) انظر شرح الفقه الأكبر، القاري 34.
([27]) انظر البرهان، الجويني1/536.وفيصل التفرقة، الغزالي198-191.
([28]) انظر تعليق الكوثري عليه 37.
([29]) انظر اعتقاد أهل السنة1/29
([30]) تذكرة الحفاظ1/207 .
([31]) تذكرة الحفاظ 1/212
([32])انظر سير أعلام النبلاء 8 /48- 95
([33]) هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي الفهري، أبو محمد. (197هـ) وهو من أثبت الناس في مالك كما في تهذيب الكمال (16/277 - 286). وقال ابن حجر في التقريب (رقم:3718):"ثقة حافظ عابد".
([34]) أحمد بن محمد بن إسماعيل بن مهران الإسماعيلي النيسابوري أبو الحسن. قال فيه الذهبي في تاريخ الإسلام (ص:187): "أبو الحسن الإسماعيلي النيسابوري العدل".
([35]) محمد بن إسماعيل بن مهران أبو بكر الإسماعيلي، قال فيه الحاكم:"هو أحد أركان الحديث بنيسابور، كثرة ورحلة واشتهارا ... ثقة مأمون"، قال إبراهيم ابن أبي طالب:"لم يجوِّد لنا حديث مالك كالإسماعيلي"، توفي سنة (295هـ)، انظر: سير أعلام النبلاء (14/117 - 118 (
([36]) أبو الربيع هو سليمان بن داود بن حماد المَهْري، وجدّه حماد بن سعد أخو رِشْدين بن سعد، توفي سنة (253هـ). نقل المزي في تهذيب الكمال توثيقه عن النسائي (11/409- 410(
([37])الأسماء والصفات 515.
([38]) العلوّ (1/138).
([39]) فتح الباري (13/406،407).
([40]) هو يحيى بن يحيى بن بكر التميمي أبو زكريا النيسابوري(226هـ(
وثّقه أحمد وابن راهويه والنسائي وغيرهم. ، تهذيب الكمال (32/31-37(.
([41]) أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن الحارث الفقيه التميمي الأصفهاني، قال فيه الذهبي في تاريخ الإسلام (ص:281):"الزاهد المقرئ النحوي المحدِّث …، وكان إماماً في العربية".
([42]) أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيّان المعروف بأبي الشيخ، قال فيه الخطيب البغدادي:"كان أبو الشيخ حافظاً ثبتاً متقناً"، توفي سنة (369هـ)، انظر: سير أعلام النبلاء (16/277- 279)
([43]) أبو علي محمد بن عمرو بن النضر الجرشي النيسابوري، قال الذهبي في تاريخ الإسلام (ص:282):"وكان صدوقاً مقبولاً".
([44])الأسماء والصفات 515. وانظر الاعتقاد )ص:56(
([45]) العلوّ (1/139).

([46]) الذخيرة لشهاب الدين أحمد القرافي 13/242
([47]) هو الإمام الحافظ سفيان بن عيينة بن أبي عمران، أبو محمد الكوفي ثم المكي. انظر ترجمته فير في التقريب )رقم:2464).
([48]) ترتيب المدارك للقاضي عياض (2/39)، ونقله الذهبي في سير أعلام النبلاء (8/106،107).
([49]) أبو عبد الله التيمي الأصبهاني. قال عنه الذهبي:"شيخ أصبهان، وابن شيخها، وأبو شيخها عبد الله"، تاريخ الإسلام (ص:475).
([50]) طبقات المحدّثين بأصبهان (2/214).
([51]) سحنون: هو الإمام العلاَّمة فقيه المغرب، أبو سعيد عبد السلام بن حبيب بن حسان التنوخي، قاضي القيروان، وصاحب المدونة. (240هـ).
انظر: السير للذهبي (12/63 – 69)
([52]) البيان والتحصيل (16/367 - 368).
([53]) هو جعفر بن ميمون التميمي أبو عليّ، ويقال: أبو العوّام الأنماطي. قال عنه أحمد:"ليس بقويٍّ في الحديث"، ونحوه عن النسائي. انظر: تهذيب الكمال (5/114،115).
([54]) عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص:38(
([55]) هو بشار بن موسى الخفّاف الشيباني أبو عثمان تكلّم فيه البخاري ويحيى بن معين، وأبو داود، والنسائي وعلي بن المديني، وغيرهم. انظر: تهذيب الكمال (4/85 – 90(.
([56]) هو علي بن سعيد النسوي أو النسائي، قال في التقريب:"صدوق صاحب حديث".
([57]) (4/90)، و(20/449(
([58]) تفسير السمعاني (3/320).
([59]) هو مهدي بن جعفر بن جَيْهان بن بهرام الرملي، أبو محمد. قال فيه ابن حجر:"صدوق له أوهام" كما في التقريب له (برقم:6979).
([60]) الحلية لأبي نعيم (6/325،326)، ورواه الذهبي في السير (8/100) من طريق أبي نعيم.
([61]) عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص:38(.
([62]) انظر" الأثر المشهور" ص3-4
([63]) انظر "الأثر المشهور "ص 16
([64]) سريج بن النعمان بن مروان الجوهري اللؤلؤي، أبو الحسين وثَّقه يحيى بن معين، والعجلي، وأبو داود، وغيرهم.وقال فيه ابن حجر:"ثقة يهم قليلاً"، كذا في التقريب.
انظر: تهذيب الكمال للمزي (10/218).
([65]) ومثل هذه الرواية بهذا اللفظ لم أجدها منقولة بسند صحيح عن أحد من السلف. ووجدتها بسند موضوع عن وهب منبه وهو من مسلمة أهل الكتاب يزعم أنه نقلها من التوراة أخرجه أبو الشيخ في العظمة 2/706 بسند حكم بوضعه الذهبي في العلو 1/125وحكم بركاكة متنه أيضا.
([66]) التمهيد (7/138)
([67]) روى عن مالك رجلان بهذا الاسم: أحدهما: عبد الله بن نافع الصائغ (ت206هـ).
والثاني: عبد الله بن نافع حفيد ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوّام، ولذلك يُقال له: الزبيري، كما يُعرف بعبد الله بن نافع الصغير (ت216هـ). قال الذهبي في السير (10/372):"وكثيراً ما تختلط روايتهم عند الفقهاء حتى لا علم عند أكثرهم بأنّهما رجلان"، و قال الحافظ ابن حجر في التقريب في الصائغ:"ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين"، وقال في الزبيري:"صدوق". وكل واحد من هذين الرجلين لا يحتمل منه مخالفة من ذكرناهم من الحفاظ.
([68]) طبقات الشافعية الكبرى 3/371-377
وانظر كلام الحافظ ابن عساكر في تبيين كذب المفتري 118-122 332و362
([69]) سير أعلام النبلاء 8/ 103-104
([70]) سير أعلام النبلاء8/105
([71]) انظر سير أعلام النبلاء 8/65-97
([72]) سير أعلام النبلاء 8/105

الخميس، 30 مايو 2013

ردود مخرصة على شبهات المجسمة


 وأما الشبهة الثانية التي تعلقوا بها أنه تعالى كان ولا عَالَم ثم خلقه، أخلقه في ذاته أم خارج ذاته؟ وكيفما كان فقد تحققت الجهة.
فنقول وبالله التوفيق: إن هذا شَىءٌ بنيتم على ما تضمرون من عقيدتكم الفاسدة أنه تعالى متبعض متجزىء، وإن كنتم تتبرّءُون منه عند قيام الدلالة على بطلان تلك المقالة وتزعمون أنا نعني بالجسم القائم بالذات، وهذه المسألة بنفس المقالة. وما تتمسكون به من الدلالة يهتك عليكم ما أَسْبَلتم من أستاركم ويبدي عن مكنون أسراركم، أما بنفس المقالة فلأن شغل جميع العرش مع عظمته لن يكون إلا بمتبعض متجزىء على ما قررنا، وأما بالدلالة فلأن الداخل والخارج لن يكون إلا ما هو متبعض متجزىء، وقيام الدلالة وانضمام ظاهر إجماعكم على بطلان ذلك يغنينا عن الإِطالة في إفساد هذه الشبهة والله الموفِق.

وربما يقلبون هذا الكلام ويقولون بأنه تعالى لما كان موجودًا إما أن يكون داخل العالم وإما أن يكون خارج العالم، وليس بداخل العالَم فكان خارجًا منه، وهذا يوجب كونه بجهة منه.والجواب عن هذا الكلام على نحو ما أجبنا عن الشبهة المتقدمة أن الموصوف بالدخول والخروج هو الجسم المتبعض المتجزىء، فأما ما لا تبعض له ولا تجزؤ فلا يوصف بكونه داخلاً ولا خارجًا، ألا ترى أن العرض القائم بجوهر لا يوصف بكونه داخلاً فيه ولا خارجًا منه؟ فكذا القديم لَمّا لم يكن جسمًا لا يوصف بذلك، فكان هذا الكلام أيضًا مبنيًا على ما يضمرون من عقيدتهم الفاسدة.
وكذا الجواب عما يتعلق به بعضهم أنه تعالى لما كان موجودًا إما أن يكون مماسًّا للعالم أو مباينًا عنه، وأيهما كان ففيه إثبات الجهة، أنَّ ما ذكره من وصف الجسم، وقد قامت الدلالة على بطلان كونه جسمًا، ألا ترى أن العَرَض لا يوصف بكونه مماسًّا للجوهر ولا مباينًا له؟ وهذا كله لبيان أن ما يزعمون ليس من لواحق الوجود، بل هو من لواحق التبعض والتجزؤ والتناهي، وهي كلها محال على القديم تعالى، والله الموفِق

والأصل في هذا كله أن ثبوت الصانع جل وعلا وقِدمه عُلِمَ بما لا مدفَعَ له من الدلائل ولا مجال للريب فيه، فقلنا بثبوته وقدمه وعرفنا استحالة ثبوت أمارات الحدث في القديم فنفينا ذلك عنه لما في إثباتها من إثبات حدوث القديم أو بطلان دلائل الحدث، وذلك باطل كله على ما قررنا، وفي إثبات المكان والجهة إثبات دلالة الحدث على ما مَرَّ. وليس من ضرورة الوجود إثبات الجهة، لأن نفسي وما قام بها من الأعراض ليست مني بجهة، وهي موجودة، وما كان مني بجهة ليس بقائم بي وهو موجود، وكذا ليس من ضرورة الوجود أن يكون فوقي لوجود ما ليس فوقي، ولا أن يكون تحتي لوجود ما ليس تحتي، وكذا قدامي وخلفي وعن يميني وعن يساري، وإذا ثبت هذا في كل جهة على التعيين ثبت في الجهات كلها، إذ هي متركبة من الأفراد. فإذًا ليس من ضرورة الموجود أن يكون مني بجهة لوجود ما ليس مني بجهة، ولا أن يكون قائمًا بي لوجود ما ليس بقائم بي. وظهر أن قيام الشىء بي وكونه بجهة مني ليسا من لواحق الوجود وضروراته على ما قررنا هذا الكلام في نفي كونه تعالى عرضًا أو جوهرًا أو جسمًا، وخروج الموجود عن هذه المعاني كلها معقول لِمَا بيّنا من الدلائل أن ليس من ضرورة الوجود ثبوت معنى من هذه المعاني كلها لمَا مَرَّ من ثبوت موجود ليس فيه كل معنى من هذه المعاني على التعيين، غير أنه ليس بموهوم لِمَا لم يُحس موجود تعرّى عن هذه المعاني كلها، إذ ما يُشاهد في المحسوسات كلها محدثة وارتفاع دلالة الحدث عن المحدَث محال، وفي الحق تعالى الأمر بخلافه. وليس من ضرورة الارتفاع عن الوهم العدمُ لما ثبت من الدلائل العقلية على الحدوث، وظهور التفرقة بين المعقول والموهوم على ما تقدم ذكره على وجه لا يبقى للمنصف فيه ريبة.

ثم إن الله تعالى أثبت في نفس كل عاقل معاني خارجة عن الوهم لخروجها عن درك الحواس، ويعلم وجودها على وجه لم يكن للشك فيه مدخل لثبوت ءاثارها، كالعقل والروح والبصر والسمع والشم والذوق، فإن ثبوت هذه المعاني متحقق والأوهام عن الإِحاطة بمائيتها قاصرة لخروجها عن الحواس المؤدية المدركة صور محسوساتها إلى الفكرة، ليصير ذلك حجة على كل من أنكر الصانع مع ظهور الآيات الدالة عليه لخروجه عن التصور في الوهم، ويعلم أن لا مدخل للوهم في معرفة ثبوت الأشياء الغائبة عن الحواس، ومن أراد الوصول إلى ذلك بالوهم ونفي ما لم يتصور فيه مع ظهور ءايات ثبوته فقد عطل الدليل القائم لانعدام ما ليس يصلح دليلاً، فيصير كمن أنكر وجود البياض في جسم مع معاينته ذلك لعدم استدراك ذلك بالسمع، وجهالةُ مَن هذا فعلُه لا يخفى عن الناس، فكذا هذا.
م لا فرق بين من أنكر الشىء لخروجه عن الوهم وبين من جعل خروج الشىء عن الوهم دليلاً للعدم، لما فيهما جميعًا [ممن] قصر ثبوت الشىء ووجوده على الوهم، وخروج الموجود عن جميع أمارات الحدث غير موهوم لما لم نعاين موجودًا ليس بمحدث، وإثبات أمارات الحدث في القديم محال، ونفيها عن القديم إخراجُه عن الوهم، وبخروجه عن الوهم يلتحق بالعدم فإذًا لا وجود للقديم، فصارت المجسمة والقائلون بالجهة والجاعلون ما لا يجوز عليه الجهة في حيز العدم قائلين بعدم القديم، فضاهوا الدهرية في نفي الصانع الذي ليس فيه شىء من أمارات الحدث، وساعدوهم بإثبات قِدَمِ من هو متمكن في المكان أو متحيز إلى جهة في إثبات قِدم من تحققت أمارات حدوثه، وبإثبات القِدَم للعالَم نفي الصانع. فإذًا عند الوقوف على هذه الحقائق علم أنهم هم النافون للصانع في الحقيقة دون من أثبته ونفى عنه الجهة والتمكن اللذين هما من أمارات الحدث. والله الموفِّق.
وهذا هو الجواب عن قولهم: إن الناس مجبولون على العلم بأنه تعالى في جهة العلو، حتى إنهم لو تُركوا وما هم عليه جُبلوا لاعتقدوا أن صانعهم في جهة العلو. فإنا نقول لهم: إن عنيتم بهذا من لم يرض عقله بالتدبر والتفكر ولم يتمهر في معرفة الحقائق بإدمان النظر والتأمل، فمسلّم أنه بهواه يعتقد أن صانعه بجهة منه، لِمَا أنه لا يعرف أن التحيز بجهةٍ من أمارات الحدث وهي منفية عن القديم، ولما يرى أن ما ليس بقائم به يكون منه بجهة، ثم يرى صفاء الأجرام العلوية وشرف الأجسام النيرة في الحس فظن جهلاً منه أنه تعالى لا بد من كونه بتلك الجهة منه لخروج ما ليس بقائم به ولا بجهة منه عن الوهم، وفضيلة تلك الجهة على سائر الجهات عنده. وإن عنيتم به الحذّاق من العلماء العارفين بالفَرق بين الجائز والممتنع والممكن والمحال فغير مسلّم، إذ هؤلاء يبنون الأمر على الدليل دون الوهم، وقد قام الدليل عندهم على استحالة كونه تعالى في جهة. والله الموفِّق.

وتعلقهم بالإِجماع برفع الأيدي إلى السماء عند المناجاة والدعاء باطلٌ، لما ليس في ذلك دليل كونه تعالى في تلك الجهة، هذا كما أنهم أمروا بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة وليس هو في الكعبة، وأمروا برمي أبصارهم إلى موضع سجودهم حالة القيام في الصلاة بعد نزول قوله تعالى:{قد أفلح المؤمنون*الذين هم في صلاتهم خاشعون} [سورة المؤمنون/1.2] بعدما كانوا يصلون شاخصة أبصارهم نحو السماء، وليس هو في الأرض، وكذا حالة السجود أمروا بوضع الوجوه على الأرض، وليس هو تعالى تحت الأرض، فكذا هذا. وكذا المتحري يصلي إلى المشرق واليمن والشام، وليس هو تعالى في هذه الجهات. ثم هو يعبد كما في هذه المواضع ويُحتمل أنه تعالى أمر بالتوجه إلى هذه المواضع المختلفة عند اختلاف الأحوال ليندفع وهْم تحيزه في جهة ويصير ذلك دليلاً لمن عرفه أنه ليس بجهة منا. وقيل إن العرش جُعل قِبلة للقلوب عند الدعاء كما جعلت الكعبة قبلة للأبدان في حالة الصلاة. واستعمال لفظة الإِنزال والتنزيل منصرف إلى الآتي بالقرءان، فأما القرءان فلا يوصف بالانتقال من مكان إلى مكان، والآتي به وهو جبريل عليه السلام كان ينزل من جهة العلو لما أن مقامه كان بتلك الجهة. والله الموفِّق.

فأما تعلقهم بتلك الآيات فنقول في ذلك: إنّا ثبَّتنا بالآية المحكمة التي لا تحتمل التأويل، وبالدلائل العقلية التي لا احتمال فيها أن تمكنه في مكان مخصوص أو الأمكنة كلها محال، فلا يجوز إبطال هذه الدلائل بما تلوا من الآيات المحتملة ضروبًا من التأويلات بل يجب حملها على ما يوافق الدلائل المحكمة دفعًا للتناقض عن دلائل الحكيم الخبير جلت أسماؤه، يحقق هذا أن حمل الآيات على ظواهرها والامتناع عن صرفها إلى ما تحتمله من التأويل يوجب تناقضًا فاحشًا في كتاب الله تعالى، وبنفيه استدل الله تعالى على أن القرءان من عنده بقوله تعالى:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} [سورة النساء/82]، وبيانه أنه تعالى قال في ءاية:{الرحمن على العرش استوى} [سورة طه/5]، وقال في ءاية أخرى:{ءأمنتم من في السمآء} [سورة الملك/19]، وقال في ءاية أخرى:{ما يكون من نجوى ثالثة إلا هو رابعهم} [سورة المجادلة/7]، وقال في ءاية أخرى:{إن ربّك لبالمرصاد} [سورة الفجر/14]، وقال في ءاية أخرى:{ألا إنه بكل شىء محيط} [سورة فصلت/54]، ثم لا وجه إلى القول بأنه على العرش وأنه في السماء وأنه بالمشرق وعند المتناجين وبالمغرب والروم والزنج والهند والعراق، بل في كل بلدة وقرية في حالة واحدة عند المتناجين في هذه الأمكنة في ساعة ولا في ساعات بالتحول والتنقل لاستحالة الحركة عليه، وأنه بالمرصاد وأنه محيط بكل شىء من جوانبه الأربع فيصير كالحقّة لكل شىء، لما في كون شىء واحد في الأمكنة الكثيرة من الامتناع.
وليس من يُجري بعض هذه الآيات على الظاهر ويصرف ما وراء ذلك إلى ما عنده من التأويل بأولى من صاحبه الذي يرى في تعيين المكان خلاف رأيه. فإذًا ظهرت صحة ما ادعيناه من تعذر حمل الآيات على الظاهر، ووجوب الصرف إلى ما يصح من التأويلات". انتهى كلام النسفي.

ححجج قاطعة وبراهين ساطعة فى رد شبه المجسمين السابقين والمعاصرين


 ذكر الشيخ أبو المعين النسفي الحنفي (508هـ) في كتابه "تبصرة الأدلة في أصول الدين" (ج1/ص174ـ183) براهين قاطعة وحججًا ساطعة في رد شبه المجسمة السابقين والوهابية المعاصرين الذين يزعمون أنَّ الله اتخذ العرش مستقرًّا ومسكنًا له وكرسيًا يجلس عليه والعياذ بالله من الكفر والخذلان، فقال ما نصه: "وللمجسمة شبه ثلاثة:
* الأولى قولهم إن الموجودَيْن القائِميْن بالذات لا يخلُوان من أن يكون كل واحد منهما بِجهةٍ من صاحبه.

فنقول وبالله التوفيق: الموجودان القائمان بالذات كل واحد منهما في الشاهد يجوز أن يكون فوق صاحبه والآخر تحته، أتجوّزون هذا في الحق تعالى؟ فإن قالوا: نعم تركوا مذهبهم، فإنهم لا يجوزون أن يكون البارىء جل وعلا تحت العالم، وإن قالوا: لا، أبطلوا دليلهم، فإن قالوا: إنما لم نجوز هذا في الحق تعالى لأن جهة تحت جهة ذم ونقيصة، والبارىء جل وعلا منزه عن النقائص وأوصاف الذم. قيل لهم: فإذًا أثبتم التفرقة بين الشاهد والحق عند وجود دليل التفرقة حيث لم تجوزوا أن يكون الحق تعالى بجهة تحت وإن كان ذلك في الشاهد جائزًا لثبوت دليل التفرقة وهو استحالة النقيصة ووصف الذم على الحق وجواز ذلك على الشاهد، فلم قلتم إن دليل التفرقة فيما نحن فيه لم يوجد؟ بل وجد لِمَا مرّ أنه يوجب الحدوث وهو ممتنع على الحق، جائز بل واجب على الشاهد.
ثم نقول لهم: كون جهة تحت جهة ذم ونقيصة غير مسلَّم، إذ لا نقيصة في ذلك ولا رفعة في علو المكان، إذ كم من حارس فوق السطح وأمير في البيت، وطليعة على ما ارتفع من الأماكن وسلطان في ما انهبط من الأمكنة.

ثم نقول لهم: كل قائم بالذات في الشاهد جوهر وكل جوهر قائم بالذات، أفتستدلون بذلك على أن الحق تعالى جوهر؟!، فإن قالوا: نعم فقد تركوا مذهبهم ووافقوا النصارى؛ وإن قالوا: لا، نقضوا دليلهم.

ثم نقول لهم: إنما يجب التعدية من الشاهد إلى الحق إذا تعلق أحد الأمرين بالآخر تعلق العلة بالمعلول كما في العلم والعالِم والحركة والمتحرك، وذلك مما لا يقتصر على مجرد الوجود بل يشترط فيه زيادة شرط وهو أن يستحيل إضافته إلى غيره، ألا يرى أن العالِم كما لا ينفك عن العلم والعلم عن العالِم يستحيل إضافة كونه عالِمًا إلى شىء وراء العلم، فعلم أنه كان عالمًا لأن له علمًا، فوجبت التعدية إلى الحق والجوهرية مع القيام بالذات وإن كانا لا ينفكان في الشاهد، ولكن لما لم يكن جوهرًا لقيامه بالذات بل لكونه أصلاً يتركب منه الجسم، لم يجب تعدية كونه جوهرًا بتعدي كونه قائمًا بالذات، وإذا كان الأمر كذلك فلم قلتم إنهما كانا في الشاهد موجودين قائمين بالذات لأن كل واحد منهما بجهة من صاحبه، أو كان كل واحد منهما بجهة صاحبه لأنهما موجودان قائمان بالذات؟
ثم نقول لهم: لو كانا موجودين قائمين بالذات لأن كل واحد منهما بجهة من صاحبه، لكان الموجود القائم بالذات بالجهة وإن لم يكن معه غيره، ولكان البارىء جلَّ وعلا في الأزل بجهة لأنه كان موجودًا قائمًا بالذات، وهذا محال، إذ الجهة لا تثبت إلا باعتبار غير، ألا يرى أن الجهات كلها محصورة على الست وهي: فوق وتحت وخلف وقدام وعن يمين وعن يسار، وكل جهة منها لن يتصور ثبوتها إلا بمقابلة غيرها، والكل يتركب من الفرد، فإذا كان كل فرد من الجهات لن يتصور إلا بين اثنين، فكان حكم كلية الجهات كذلك لما مَرَّ من حصول المعرفة بالكليات بواسطة الجزئيات، وإذا كان الأمر كذلك كان تعليق الجهة بالوجود والقيام بالذات مع أن كل واحد منهما يثبت باعتبار النفس دون الغير والجهة لا تثبت إلا باعتبار الغير، جهلاً بالحقائق.
ثم يقال لهم: أتزعمون أن القائمين بالذات يكون كل واحد منهما بجهة من صاحبه على الإِطلاق، أم بشريطة كون كل واحد منهما محدودًا متناهيًا؟ فإن قالوا: نعم على الإِطلاق، فلا نسلم، وما استدلوا به من الشاهد فهما محدودان متناهيان. وإن قالوا: نقول ذلك بشريطة كون كل واحد منهما محدودًا متناهيًا، فمسلَّم، ولكن لم قلتم إن البارىء محدود متناه! ثم إنا قد أقمنا الدلالة على استحالة كونه محدودًا متناهيًا، والله الموفِق.

أقوال فى التجسيم


 قال القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي المتوفى سنة 422هـ (في شرحه على عقيدة مالك الصغير ص: 28): "ولا يجوز أن يثبت له كيفية لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشىء، ولا سألته الصحابة عنه، ولأن ذلك يرجع إلى التنقل والتحول وإشغال الحيّز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤول إلى التجسيم وإلى قِدم الأجسام وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام "اهـ
ونقل عبد الرحمن الجزيري (في كتابه الفقه على المذاهب الأربعة في المجلد الخامس ص: 396) تكفير المجسم، يعني أنّ المجسم كافر في المذاهب الأربعة يعني الإجماع.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما :( تفكروا في كل شىء ولاتفكروا في ذات الله) .. ومعنى ذاتِ الله حقيقة الله الذي لا يشبه الحقائق ..

كل الأئمة من الصحابة ومن جاء بعدهم يعتقدون أن الله تعالى لايشبه شيئا من خلقه وأن الأياتِ والأحاديثَ التي توهم ظواهرها خلاف ذلك ليس المقصود بها تلك الظواهر لذلك قال الإمام أبو جعفر الطحاويُّ الذي كان في المائة الثالثة للهجرة في عقيدته المشهورة بين المسلمين عن الله :[ تعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات ، لاتحويه الجهات الست كسائر المبتدعات]. يعني أن الله منـزهٌ عن أن يكون حجماً لأن المحدود في اللغة وعند علماء الشرع ما لهُ حجمٌ صَغُر أو كَبُر ، والغايات هي النهايات وذلك من أوصاف الأحجام أما الأعضاء فهي الأجزاء الكبيرة كاالرأس واليدين والرجلين، والأركان هي الجوانب وهذا من صفات الأجسام، وتنـزه الله عن أن يكون له أدوات أي الأجزاء الصغيرة كالأنف والشفة والأصابع .

قال: لاتحويه الجهات الست كسائر المبتدعات أي لايوصف الله بأنه تحيط به الجهات الست كما أن المخلوق تحيط به الجهات الست ، بعض المخلوقات في جهة فوق وبعضها في جهة تحت وبعضها في الشمال وبعضها في جهة الجنوب أما الله فليس متحيزاً في جهة من الجهات الست، على هذا علماء السلف والخلف من الصحابة ومن جاء بعدهم ، ومن خالف هذا فهو ضالٌ مبتدعٌ في العقيدةِ بدعةَ ضلالة.

قال الإمام الجنيد رضي الله عنه (توفي سنة 298 هجرية) : " أشرف كلمة في التوحيد قول الصدّيق : الحمد لله الذي لم يجعل للخلق سبيلا الى معرفته إلاّ بالعجز عن معرفته". (7/267) من نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب لأحمد بن محمد التلمساني المتوفى سنة 1041 هجرية.

ومعناه أن الله تعالى لا يستطيع العبد أن يحيط معرفة بذاته فمن رضي بهذا واعتقد أن الله موجود لا يشبه الموجودات موجود بلا مكان ولا جهة والله ليس حجما كثيفا كالإنسان والنبات والحجر وليس جسما لطيفا كالريح والروح والملك والجن ولا يوصف بأوصاف الخلق كالحركة والسكون والحرارة والبرودة والشكل والهيئة والصورة فهذا عرف الله، أما من لم يرض بهذا فشبه الله بخلقه ووصفه بالجلوس أو الاستقرار أو الحركة أو السكون أو وصف كلامه بأنه حرف أو صوت أو لغة فهذا مشبه لم يعرف الله وليس من المسلمين.
قال المفسّر فخر الدين الرازي (606هـ) ما نصه: "فلو كان علوّ الله تعالى بسبب المكان لكان علو المكان الذي بسببه حصل هذا العلوّ لله تعالى صفة ذاتية، ولكان حصول هذا العلوّ لله تعالى حصولاً بتبعية حصوله في المكان، فكان علو المكان أتم وأكمل من علو ذات الله تعالى، فيكون علو الله ناقصًا وعلوّ غيره كاملا وذلك محال" اهـ.
والعلو على وجهين: علو مكان، وعلو معنى أي علو قدر، والذي يليق بالله هو علو القدر لا علو المكان، لأنه لا شأن في علوّ المكان إنما الشأن في علو القدر، ألا ترون أن حملة العرش والحافين حوله هم أعلى مكانًا من سائر عباده وليسوا أفضل خلق الله، بل الأنبياء الذين مكانهم تحت أفضل منهم، ولو كان علو المكان يستلزم علو القدر لكان الكتاب الذي وضعه الله فوق العرش وكتب فيه: "إن رحمتي سبقت غضبي" مساويًا لله في الدرجة على قول أولئك ـ أي على قول من قال إن الله فوق العرش بذاته ـ، ولكان اللوح المحفوظ على قول بعض العلماء إنه فوق العرش ليس دونه، مساويًا لله في الدرجة بحسب ما يقتضيه زعمهم، فعلى هذا المعنى يحمل تفسير مجاهد لقول الله تعالى:{الرحمنُ على العرش استوى} [سورة طه/5] بعلا على العرش كما رواه البخاري"
قال الشيخ أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم المعروف بابن القشيري (514هـ) عند بيان جواز تأويل الاستواء بالقهر ما نصه (إتحاف السادة المتقين للزبيدي ج2/108-109) :"ولو أشْعر ما قلنا توهم غلبته لأشْعر قوله:{وهو القاهر فوق عباده} [سورة الأنعام/61] بذلك أيضًا حتى يقال كان مقهورًا قبلَ خلقِ العباد، هيهاتَ، إذ لم يكن للعباد وجودٌ قبلَ خلقِه إيّاهم، بل لو كان الأمر على ما توهمَه الجهلةُ مِنْ أنه استواءٌ بالذاتِ لأشعر ذلك بالتغيُّر واعوجاج سابقٍ على وقتِ الاستواء، فإن البارىء تعالى كان موجودًا قبلَ العرش. ومَنْ أنصفَ عَلِمَ أنّ قولَ مَن يقول: العرشُ بالربِّ استوى أمثلُ مِن قول مَن يقول: الربُّ بالعرشِ استوى، فالربُّ إذًا موصوفٌ بالعُلُو وفوقية الرتبةِ والعظمةِ منزهٌ عن الكون في المكان وعن المحاذاة" اهـ. ثم قال: "وقد نَبَغَت نابغةٌ من الرَّعاعِ لولا استنزالُهم للعوامِ بما يقربُ مِن أفهامهم ويُتصوّرُ في أوهامِهم لأَجْلَلْتُ هذا المكتوب عن تلطيخه بذكرهم. يقولون: نحن نأخذُ بالظاهر ونجري الآياتِ الموهمةَ تشبيهًا والأخبارَ المقتضية حدًّا وعُضوًا على الظاهر ولا يجوز أن نطرقَ التأويلَ إلى شىء مِن ذلك، ويتمسكون بقول الله تعالى: {وما يعلم تأويلَه إلا الله} [سورة ءال عمران/7]. وهؤلاء والذي أرواحنا بيده أضَرُّ على الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وعَبَدةِ الأوثانِ، لأن ضلالاتِ الكفارِ ظاهرةٌ يَتَجَنَّبُها المسلمون، وهؤلاء أَتَوا الدينَ والعوامَّ مِن طريقٍ يَغْتَرُّ به المُسْتَضعفُون، فأَوْحَوا إلى أوليائهم بهذه البدع وأَحَلُّوا في قلوبهم وصفَ المعبودِ سبحانَه بالأعضاء والجوارح والركوب والنزول والاتكاء والاستلقاءِ والاستواء بالذات والترددِ في الجهات، فمن أَصْغى إلى ظاهرهم يبادرُ بوهمِه إلى تخيّلِ المحسوسات فاعتقدَ الفضائحَ فسالَ به السيلُ وهو لا يَدْري" اهـِ

ابن تيمية وأتباعه يستشهدون بأثر ملفق على مسائل القبور


 
ابن تيمية يستشهد بأثر ملفّق على مسائل القبور.الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد، فأقول: نعم، هذا صحيح للأسف، بل إن ابن تيمية رحمه الله
يجعله أحد الأعمدة التي أقام عليها مفهوم توحيد الألوهية، والتي أفرزت القول بتكفير الناس والحكم على المسلمين بالشرك الأكبر أو الـأصغر أو التبديع أو التضليل من أجل مسائل القبور كشدّ الرحال إليها أو الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن عندها أو تقبيلها أو التبرك بها أو التوسل بأصحابها ونحو ذلك.
ويا ليت الأمر وقف عند ابن تيمية، إذن لقلنا إنه أفضى إلى ما قدم، ولكن ما الحلية مع أناس جعلوا قوله حَكما عدلا، وقلّدوه في كل شيء حتى في الأمور التي وَهم فيها ـ هذا عند إحسان ظن خصومه به ـ والطريف أن أتباعه ـ كالألباني مثلا ـ ينكرون على الناس تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، تحت دعوى الاجتهاد والعمل بالدليل والقول الراجح ونبذ التقليد.
ولندخل في الموضوع، إن ابن تيمية حين قسّم التوحيد إلى توحيد ألوهية وتوحيد ربوبية، وذهب إلى أن على المرء أن يُقرّ بكلا القسمين ولا يأتي بما ينافيهما أو بما ينقضهما، اعتبر أن مسائل القبور تنقض توحيد الألوهية، وأن من يفعلها فإنه من عبّاد القبور، بناء على المفهوم الجديد للعبادة عنده، واحتج على كل ذلك بعدة أمور منها أثر ملفق لابن عباس فما هو؟
لنستمع لابن تيمية وهو يسرد هذا الأثر، ثم نرى تعليقه عليه وما فهمه منه، يقول ابن تيمية: "واتفق الأئمة على أنه لا يتمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقبله [1]، وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} قالوا: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا على صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها. وقد ذكر هذا المعنى البخاري في صحيحه، عن ابن عباس، وذكره محمد بن جرير الطبري وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف، وذكره "وثيمة" وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق( [2]).اهـ
فمن هذا النص يتبين أثر ابن عباس وهو "هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا على صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوه" وقد نسب ابن تيمية معنى هذا الأثر إلى البخاري وغيره، واستنبط منه ابن تيمية أن بناء المساجد على القبور شرك، وأنه لا يُقبّل قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتمسح به.
وقد أورد هذا الأثرَ أتباعُ ابنِ تيمية محتفين به، لا يفتأون يرددونه ويستنبطون منه "الفرائد والفوائد"، مقلدين لشيخهم في ذلك، فممن من أورده ابن القيم [3]، وابن عبد الهادي في الصارم المنكي [4]، وابن أبي العز مستنبطا منه أن هذه الأسماء الخمسة في سورة نوح هي:" تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله، وهذا كان أصل شرك العرب( [5])"، والشوكاني في كتابه شرح الصدور بتحريم رفع القبور [6]، وابن عبد الوهاب في كتابه التوحيد تحت عنوان باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم وهو الغلو في الصالحين( [7]).

وقد اهتم ابن عبد الوهاب بهذا الأثر كثيرا لأنه سيُحْكم به تهمةَ الكفر على خصومه ممن يخالفوه في مسائل القبور، إذ سيقول لهم: لا فرق بينكم وبين كفار قريش لأن كلاكما تعبدون الصالحين، ولن يستطيعوا أن يقولوا له: إن المشركين كانوا يعبدون الأصنام، لأن ابن عبد الوهاب سيرد عليهم بالقول:قد دل أثرُ ابن عباس هذا على أن الأصنام التي كانوا يعبدونها ما كانت إلا تماثيل لقوم صالحين اتخذوهم شفعاء وتوسلوا بهم تماما كما تفعلون.
وقد استدل بهذا الأثر كثير من أتباع ابن عبد الوهاب، وعلى رأسهم ابن قيصر الأفغاني وشيوخه الذين استنبطوا من الأثر منشأ عبادة القبور حيث قالوا:" عبادة القبور - هي أصل شرك العالم ، وأن المشركين القبوريين قد ظهروا في عهد نوح عليه الصلاة والسلام بسبب عبادة هؤلاء الأولياء الخمسة، وعكوف القبورية في ذلك العهد على قبورهم، وبذلك وجدت القبورية على الأرض، ثم تطورت القبورية حتى انتشرت في العرب وغيرهم"( [8]).

والجواب على هذا الأثر من وجوه:
الوجه الأول: إن هذا الأثر الذي ذكرتموه عن ابن عباس وردّدتُموه كثيرا ونسبه ابنُ تيمية وتابعه ابن أبي العز وابن قيصر الأفغاني ـ إلى صحيح البخاري: لا وجود له بهذا اللفظ الذي سرده ابن تيمية وبعض أتباعه،وإليكم الأثر بإسناده ولفظه من صحيح البخاري:
قال البخاري في صحيحه في كتاب التفسير: باب { ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق}؛ حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن ابن جريج . وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ؛ أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ، ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَإٍ، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ، أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ، وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ " [9].اهـ
فهذا هو لفظ البخاري فأين فيه "فلما ماتوا عكفوا على قبورهم" كما نقله ابن تيمية وبعض أتباعه؟ بل هل للقبور ذِكْر قط في أثر البخاري هذا عن ابن عباس؟! فيا حسرة على العلم والورع والتقوى ماذا بقي منه؟! فكم أورد المخالفون هذا الأثر محرّفا؛ وكم كفّروا به المسلمين واستحلوا دمائهم؟! فانظر كيف تُستباح الدماء بروايات لا وجود لها أصلا؟ وليس هذا فحسب بل تراهم ينسبون هذا الأثر إلى البخاري، وكم تكرر هذا الأثر في كتب ابن تيمية، ولكن ليس بلفظ البخاري بل باللفظ الملفق السابق، وتراه تارة ينسبه إلى السلف فيقول "قال السلف كابن عباس وغيره "( [10]) وتارة يقول: "قال غير واحد من الصحابة والتابعين"( [11])، ومرة قال بعد أن نسبه لابن عباس: وهذا مشهور في كتب التفسير والحديث وغيرها كالبخاري وغيره( [12]). ومرة قال: وقد ذكر البخاري في صحيحه هذا عن ابن عباس( [13]). ومرة قال "قال طائفة من السلف( [14])" ومرة قال : "وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه وبسطه وبينه في أول كتابه في قصص الأنبياء وغيرها( [15]). إلى غير ذلك من المواضع الكثيرة التي أوردها فيه( [16]).
أليس من حق المرء أن يقول: إن هذا كذب وافتراء؟ فضلا عن أنه تحريف [17] وتدليس حين يَجزم ابنُ تيمية بنسبة الأثر إلى ابن عباس في البخاري بلفظ "فلما ماتوا عكفوا على قبورهم"، وابنُ تيمية يَعلم قبل غيره أن البخاري لم يروه بهذا اللفظ، فابن تيمية نفسه سرده في إحدى المواضع باللفظ المذكور فعلا في البخاري( [18])؛ فلِمَ يكرر ابن تيمية اللفظ المحرّف ويدع اللفظ الصحيح؟ وما هدفُ ابن تيمية من ذلك؟
إن هدفه هو القول : " وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان"( [19]).
وبالتالي ليُكفّر أو يُضلل المسلمين الذين يتمسحون بالقبور أو يسافرون إليها أو يَدْعون عندها ونحو ذلك، فيكون ابن تيمية ارتكب الكذبَ ليُكفّر المسلمين، وهذه ظلمات بعضها فوق بعض، فنعوذ بالله من الخذلان.

ويا ليت الأمر وقف عند ابن تيمية كما قلنا سابقا، بل ترى بعض أتباعه قلدوه في هذا التدليس والكذب، فهذا ابن أبي العز الحنفي يقول: وقد ثبت في صحيح البخاري، وكتب التفسير، وقصص الأنبياء وغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من السلف( [20]). وابن أبي العز مقلدٌ لابن تيمية في هذا العزو كما سبق.
وترى ابنَ قيصر الأفغاني ينقل هذا عن ابن أبي العز دون أن يبيّن أن هذا كذبٌ على البخاري؛ بل إن الأفغاني ذكر في حاشية كتابه تعليقا على عزو ابن أبي العز للبخاري رقم الجزء والصفحة في صحيح البخاري وأحال أيضا إلى شرّاح البخاري كفتح الباري وغيره( [21]).
وهذا كله كذب يستحله الأفغاني كما استحله شيوخه ليرمي المسلمين بالشرك؛ فتأمل كيف ملأ الأفغاني كتابه بالشتم ورمي الأمة وعلماءها بالكذب( [22]) والتدليس والقرمطة، ثم يرتكب الأفغانيُّ كلَ ذلك جهارا نهارا، ويعزو إلى البخاري ما ليس فيه ولا في غيره أصلا، وإنما هو لفظ اخترعه شيخُه ليُروّج بدعته على الناس في تقسيم التوحيد وما بنى عليه من الشرك في مسائل القبور.
فانظر كيف اتخذ ابنُ قيصر الأفغاني ومن على شاكلته: ابنَ تيمية ربّا، أحل له الحرام كالكذب، وحرّم عليه الحلال كالتوسل الذي جاء في حديث الأعمى!! فأشرك الأفغاني في توحيد الربوبية التي لم يُشرك فيها أبو جهل كما قال الأفغاني وشيوخه، فصار الأفغاني أسوأ من أبي جهل، وبذلك ترتد هذه السُّبة التي قذف بها أئمة المسلمين وجعل أبا جهل أفضل منهم، ترتد إلى الأفغاني نفسه، وكفى بالله نصيرا، فهو تعالى القائل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } [الحج: 38].
وتعالوا إلى الألباني الذي يرمي الأمةَ وكبارَ الحفاظ بالتقليد الأعمى؛ فلقد خرّج الأحاديث التي أوردها ابن أبي العز في شرحه للطحاوية فماذا قال عن أثر ابن عباس باللفظ المحرّف؟ هل نبّه إلى أن هذا اللفظ لا وجود له، وأن من عزاه إلى البخاري فقد أخطأ.
لنستمع ماذا قال الألباني تعليقا على أثر ابن عباس: صحيح وهو موقوف بحكم المرفوع( [23]).اهـ هكذا قال الألباني فتأمل أعاذنا الله وإياك من الهوى. إن الألباني يقيم الدنيا ولا يقعدها إذا استدل أحد من العلماء بحديث ضعيف، ولكن الألباني يرتكب هنا ما هو أشد، إذ هو يجعل الموضوع صحيحا؟ فتأمل وسل الله الرشاد!!
فإن قيل: ربما قصد الألباني وابن تيمية وغيره أن الأثر أصله في البخاري، ويكون اللفظ الذي أورده ابن تيمية مروي بالمعنى عند غير البخاري كما صرح بذلك في أحد المواضع، والرواية بالمعنى جائزة.
قلنا: هذا غير صحيح، لوجوه؛ الأول: أن ابن تيمية جزم مواضع كثيرة أن البخاري أخرج الأثر بلفظ "فلما ماتوا عكفوا على قبورهم" كما سبق؛ وكونه صرّح في موضع أن البخاري رواه بالمعنى، فهذا لا ينفعه بل يؤكد أنه هو نفسه يعلم بأنه ليس في البخاري باللفظ الملفق، فلم نسبه في سائر المواضع إلى البخاري جزما؟
الثاني: أن اللفظ الملفق الذي أورده ابن تيمية لا وجود له في البخاري ولا في غيره. فإني قد بحثت عبر الحاسوب في آلاف كتب التفسير والحديث والتاريخ واللغة والفقه وغير ذلك فلم أجد هذا اللفظ إلا في كتب ابن تيمية وفي كتب أتباعه من بعده، فكل من ذكره بعده فقد أخذه منه تقليدا كابن كثير وابن القيم وابن أبي العز وابن عبد الوهاب والشوكاني والأفغاني سواء نسبه لابن عباس أو لبعض السلف.
الثالث: أن الرواية بالمعنى جائزة في العصور الأولى قبل التدوين، ولكن بعد التدوين يجب نقل الأحاديث من الكتب المسندة بلفظها [24]، بل إن الصلاح ذكر أن النقل من الكتب لا يجوز أن يكون بالمعنى ولا يجري الخلاف الواقع في رواية الأحاديث بالمعنى، وفي ذلك يقول: "ثم إن هذا الخلاف لا نراه جاريا - ولا أجراه الناس فيما نعلم - فيما تضمنته بطون الكتب فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف ويثبت بدله فيه لفظا آخر بمعناه فإن الرواية بالمعنى رخص فيها من رخص لما كان عليهم في ضبط الألفاظ والجمود عليها من الحرج والنصب وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطون الأوراق والكتب ولأنه إن ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غيره" [25].
الرابع: إن الرواية بالمعنى يُشترط فيها العلم بمعاني الألفاظ ومقاصدها لئلا يُحيل المعنى وإلا فلا تجوز الرواية بالمعنى اتفاقا [26]، وهذا الشرط غير متحقق هنا، إذ رواية البخاري لا ذكر فيها للقبور أصلا، بل هي مقحمة في الرواية المحرفة والملفقة إقحاما؛ فأي رواية بالمعنى هذه التي تقحم ألفاظا في الحديث تقلبه رأسا على عقب، ولاسيما ونحن في مقام الحجاج والمناظرة في أخطر المسائل التي رتب عليها ابن تيمية وأتباعه التكفير وسفك للدماء؟
والخلاصة أن أثر ابن عباس باللفظ الذي أورده ابن تيمية وأتباعه لا وجود له في البخاري ولا في غيره، وللأسف ما زال كثير من السلفية حتى وقتنا هذا ـ ونحن في ثورة المعلومات ـ ينقلون هذا الأثر المخترع وينسبونه إلى البخاري مقلدين ابنَ تيمية في ذلك، وينشرونه على الشبكة العالمية [27].
نعم، وللإنصاف أقول: إن كثير من أتباع من ابن تيمية مثل ابن القيم وابن عبد الوهاب وآخرين سبق ذكرهم في الحاشية ـ ذَكروا أثرَ ابنِ عباس المحرّف الملفق ولكن لم ينسبوه إلى البخاري كما فعل ابن تيمية، وإنما نسبوه لبعض السلف، بعد أن عَرفوا أن هذا الأثر لا وجود له في صحيح البخاري باللفظ المخترع؛ ولكن هذا لا يكفي، كان الواجب على هؤلاء ـ على الأقل ـ أن يصرحوا بأن ابن تيمية َوهِم في نسبة الأثر إلى البخاري، وهذا أضعف الإيمان، ولكن حتى هذا لم ينبّه إليه ابن القيم والآخرون الذين علموا بأن الأثر لا وجود له في البخاري.
ولو أن أحد الأشاعرة أو الصوفية وقع فيما وقع فيه ابن تيمية هذا لانهال السلفية عليه بشتى السبائب والشتائم واتهامه بالكذب والتضليل ووو.....، تماما كما فعلوا مع من قال من أصحابنا [28] بأن الرجل الذي جاء قبر النبي مستسقيا كما في أثر مالك الدار، هو الصحابي بلال المزني، فانهالوا عليه بالسبائب والشتائم والكذب [29]، مع أنه ورد في بعض الروايات أنه فعلا هو ذلك الصحابي ولكنها روايات ضعيفة كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح، فكان إنكاركم هنا فيما فعله ابن تيمية في أثر ابن عباس: أولى ؛ لأن هذا الأثر الذي أورده لا وجود له قط لا في رواية صحيحة ولاضعيفة ولا موضوعة.
فلماذا تقيمون الدنيا على خصومكم وتتغاضون عما فعله ابنُ تيمية، مع أنه فعَل ما هو أشنع كما هو موضح، فهل هو الهوى؟ فإيكم وإياه لأن الهوى عُبد إلها من دون الله، كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43]؛ ولاسيما وأنكم تحذّرون من مسائل القبور لئلا تتخذ القبور آلهة من دون الله حفاظا على توحيد الألوهية، فالهوى أولى بالتحذير والبعد منه، لأنه منصوص عليه في الآية السابقة بخلاف مسائل القبور فغايتها اجتهاد لابن تيمية.
ثم إن عزو ابن القيم وابن عبد الوهاب الأثر المحرف إلى بعض السلف، هو أيضا نسبة غير صحيحة، فهذا الأثر لم يرد في آلاف الكتب التي بحثت فيها ـ عن أحد ، لا عن السلف ولا عن الخلف إلى أن جاء ابن تيمية فسطّره في كتبه، فالعهدة عليه، فقول ابن القيم ومن تبعه إنه منقول السلف: لا يجدي، لأنه إصلاح للكذب بمثله، فكان الواجب عليه أن يقول هذا أثر باطل لا وجود له قط ولم يثبت مرفوعا ولا موقوفا ولا مقطوعا ولا عن أحد.

______________________________
__________

[1] والواقع أنهم لم يتفقوا على ذلك بل أجاز ذلك الإمام أحمد بن حنبل في رواية عنه، وغيره، يقول عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتابه العلل ومعرفة الرجال ناقلا عن أبيه: سألته عن الرجل يمس منبر النبي ويتبرك بمسه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز؟ فقال: لا بأس بذلك. انظر: العلل ومعرفة الرجال ج2 ص492 رقم3243 ط. المكتب الإسلامي / بيروت-دار الخاني / الرياض سنة1408هـ - 1988م.
( [2]) الفتاوى الكبرى - (5 / 291)
[3] انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 184) ولكن دون أن ينسبه لابن عباس بل قال ابن القيم: وقال غير واحد من السلف : كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح عليه السلام فلما ماتوا عكفوا على قبورهم.اهـ ونقله هكذا عن ابن القيم عدد من السلفية منهم الفوزان في إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1/ 267)، ومحمد الفقيه في كتابه الكشف المبدي لتمويه أبي الحسن السبكي (ص: 205)، وابن عبد الوهاب في كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد (ص: 28)، وحفيده سليمان في تيسير العزيز الحميد (ص: 269)، والراجحي في مجانبة أهل الثبور المصلين في المشاهد وعند القبور (ص: 30)
[4] جاء في الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص: 286): بل فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك كما قال ابن عباس في قوله تعالى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ....هؤلاء كانواً قوماً صالحين في قومهم ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ...
( [5]) شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي– ط/ الرسالة (29)، وللأسف لم ينبه المحققان د. عبد الله التركي والشيخ شعيب الأرنؤوط إلى أن هذا لفظ ملفق، بل إنهما عزوه إلى البخاري وذكروا طرفه وهو: صارت الأوثان .... ثم بتروه ولم يتموه، موهمين أنه هو عين اللفظ الذي ورد في البخاري. وهذه خيانة علمية واضحة. ثم إني اطلعت على شرح الطحاوية بتحقيق الشيخ أحمد شاكر فلم أجد في متن الشرح أثر ابن عباس، لا بلفظ البخاري ولا باللفظ الملفق فالله أعلم بالحال.
[6] ص 9، ولكن دون أن ينسبه لابن عباس وإنما قال : وقال قوم من السلف:......كما فعل ابن القيم.
( [7]) أورده دون نسبته إلى ابن عباس وإنما لبعض السلف كما فعل ابن القيم سابقا، انظر: كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد (ص: 28)، وتيسير العزيز الحميد ص545
( [8]) جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية - (1 / 404)، وانظر: (1 / 130).
[9] صحيح البخاري - (4 / 1873(، بتحقيق أستاذنا د. مصطفى البغا.
( [10]) الفتاوى الكبرى (2 / 432).
( [11]) الفتاوى الكبرى (3 / 35)
( [12]) مجموع الفتاوى (1 / 151)
( [13]) مجموع الفتاوى (1 / 321)
( [14]) مجموع الفتاوى (3 / 399)
( [15]) مجموع الفتاوى (4 / 518)، ولم أجده في كتاب قصص الأنبياء من صحيح البخاري، وإنما هو في كتاب التفسير منه باللفظ المزبور أعلاه.
( [16]) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1 / 357)، و(5 / 75)، لابن تيمية، ط1/ دار العاصمة – الرياض.
[17] وتهمة التحريف أهون شيء عند ابن تيمية كان يقذف بها خصومه من الأشاعرة والماتريدية، حيث يعتبر أن تأويلهم لآيات الصفات من قبل التحريف، فأوقعه الله في نفس التهمة، لأن الجزاء من جنس العمل، بل هنا التهمة ألصق به إذ تأويل آيات الصفات بمعان لا تأباها اللغة ويعضدها السياق والسباق: من أبعد شيء عن التحريف كما قرره المحققون في موضعه، وأما أن تأتي بأثر مصنوع يخدم أهواءك، ثم تنسبه إلى صحيح البخاري وهو أبعد ما يكون عن صحيحه فهذا هو التحريف والكذب أيضا.
( [18]) مجموع الفتاوى - (17 / 455)
( [19]) مجموع الفتاوى - (27 / 79)
( [20]) شرح الطحاوية – ط/ الرسالة (29).
( [21]) جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية - (1 / 131)
( [22]) انظر مثلا: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، لابن قيصر الأفغاني (1 / 257)، ويقول الأفغاني هذا في كتابه الآخر"عداء الماتريدية للعقيدة السلفية 1/18و 322" يقول عن الإمام التفتازاني: "كذاب ملحد زنديق".اهـ والأفغاني هذا يكاد أنه لم يترك إماما من أئمة المسلمين إلا وأقذع في شتمه وتكفيره وسبه، اللهم إلا أن يكون ابن تيمية وشيعته، ولقد جمعت بعض شتائمه هذه في أئمة المسلمين وسوف أفردها بمقال خاص بإذن الله.
( [23]) تخريج الألباني لشرح الطحاوية ص20، دار الفكر العربي بالقاهرة.
[24] انظر: منهج النقد في علوم الحديث ص 228
[25] علوم الحديث لابن الصلاح ص214، بتحقيق أستاذنا د. العتر.
[26] علوم الحديث لابن الصلاح ص213.

الإستواء على العرش صفة الله بلا كيف


 الخازن هو من علماء اهل السنة الذين هم الى السلف اقرب بقرون من محمد بن عبد الوهاب : 
نقل الخازن في تفسيره عن الراغب انه قال عن "العرش" في كتابهمفردات القرآن :ليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملاً له تعالى الله عن ذلك. ونقل عن البيهقي انه ضعف كل الروايات عن السلف التي تفسر الاستواء بالاستقراروهذا معانه انه لا يؤخذ بها
ثم قال في تفسير الخازن 725هجرية

وقوله تعالى: { ثم استوى على العرش قال: أما الاستواء فالمتقدمون من أصحابنا كانوا لا يفسرونه ولا يتكلمون فيه كنحو مذهبهم في أمثال ذلك، وروى بسنده عن عبد الله بن وهب أنه قال: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه فأخرج الرجل. وفي رواية يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه؟ فأطرق مالك برأسه حتى علته الرحضاء ثم قال الاستهواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعاً فأمر به أن يخرج. روى البيهقي بسنده عن ابن عيينة قال: ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه. قال البيهقي: والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة وعلى هذه الطريقة يدل مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وإليه ذهب أحمد بن حنبل والحسن بن الفضل البجلي ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي. قال البغوي أهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم به إلى الله عز وجل وذكر حديث مالك بن أنس مع الرجل الذي سأله عن الاستواء وقد تقدم. وروى عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة اقرؤوها كما جاءت بلا كيف.ونقل البيهقي عن أبي الحسن الأشعري أن الله تعالى فعل في العرش فعلاً سماه استواء كما فعل في غيره فعلاً سماه رزقاً ونعمة وغيرهما من أفعاله ثم لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل لقوله تعالى: ثم استوى على العرش. وثم للتراخي والتراخي إنما يكون في الأفعال وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة وحكى الاستاذ أبو بكر بن فورك عن بعض أصحابنا أنه قال: استوى بمعنى علا من العلو قال ولا يريد بذلك علواً بالمسافة والتحيز والكون في المكان متمكناً فيه ولكن يريد معنى نفي التحيز عنه وأنه ليس مما يحويه طبق أو يحيط به قطر ووصف الله تعالى بذلك طريقة الخبر. ولا يتعدى ما ورد به الخبر قال البيهقي رحمه الله تعالى وهو على هذه الطريقة من صفات الذات وكلمة ثم تعلقت بالمستوي عليه لا بالاستواء. قال وقد أشار أبو الحسن الأشعري إلى هذه الطريقة حكاية فقال بعض أصحابنا إنه صفة ذات قال وجوابي هو الأول وهو أن الله تعالى مستو على عرشه وأنه فوق الأشياء بائن منها بمعنى أن لا تحله ولا يحلها ولا يماسها ولا يشبهها وليست البينونة بالعزلة تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علواً كبيراً وقد قال بعض أصحابنا: إن الاستواء صفة الله تعالى تنفي الاعوجاج عنه.انتهى .و ليس معنى كلامهم انه منتصب ايضا
ثم قال الخازن وروي أن ابن الأعرابي جاءه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن ما معنى قوله تعالى الرحمن على العرش استوى؟ قال: إنه مستو على عرشه كما أخبر فقال الرجل: إنما معنى قوله استوى أي استولى. فقال له ابن الأعرابي: ما يدريك أن العرب لا تقول استولى فلان على الشيء حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب قيل لمن غلب قد استولى عليه والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر لا كما تظنه البشر والله أعلم انتهى كلام الخازن

الأربعاء، 29 مايو 2013

حكم إدخال أصحاب النبى وأزواجه فى الصلاة عليه وآله صل الله عليه وسلم

لا خلاف بين الأئمة في جواز الصلاة على الصحب تبعا، وإنما 

الخلاف في الصلاة عليهم استقلالا  ثم اعلم أن من قال من 

العلماء: إن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم أتباعه المؤمنون ـ 

فالصلاة على الصحب بعد الصلاة على الآل تكون من باب عطف 

الخاص على العام، لأنهم أولى الناس بالدخول في وصف الآل 

على هذا الوجه، ومن قال إن آله: هم المؤ منون من قرابته ـ  

فالصلاة عليهم بعد الصلاة على الآل أتت بطريق القياس, جاء 

في حاشية الجمل: قدم الآل، لأن الصلاة عليهم وردت بالنص، 

وأما الصلاة على الصحب فبالقياس.

قال تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ 

آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) .


عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ 

يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا 

تَسْلِيمًا ) قُمْتُ إِلَيْهِ ، فَقُلْتُ : السَّلاَمُ عَلَيْكَ قَدْ عَرَفْنَاهُ ، فَكَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : قُلِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ ، إِنَّكَ حُمَيْدٌ مَجِيدٌ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حُمَيْدٌ مَجِيدٌ.رَوَاهُ أَهْلُ الصِّحَاحِ، وَالسُّنَنِ، وَالْمَسَانِيدِ. كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ، وَغَيْرِهِمْ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى إذَا صَلَّى عَلَيْنَا أَهْلُ الْبَيْتِ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤمِنِينَ، وَذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ}  
سُنَنِ أَبِي دَاوُد
وقال تعالى وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا* ) وأهل البيت هنا هم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن السياق يقول ذلك . فالآيات من قبل ومن بعد تتحدث عن زوجات النبي وحدهن ، وتعبر عنهن ( بأهل البيت ) .. أما علي وفاطمة والحسن والحسين فقد دخلوا في عداد أهل البيت يوم جمعهم النبي وغطاهم بكسائه ، ودعا أن يكونوا مشمولين بذهاب الرجس والتطهير ، الواردين في هذه الآيات أسوة بزوجاته الطاهرات المطهرات . عن عائشة أم المؤمنين عند مسلم ، وعن أم سلمة عند الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخل علياً وفاطمة والحسن والحسين في كساء كان معه وقال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، وهم أحق ... وقوله ( وهم أحق ) فيه دلالة أخرى على أن زوجاته صلى الله عليه وسلم هن الأسبق إلى كونهن ( أهل بيت النبي ) من أصحاب الكساء . لأن اسم التفضيل ( أحق ) يشير إلى وجود مفضل ومفضل عليه . 

ولو تتبعنا لفظ الآل والأهل في القرآن لتبين أن هذين التركيبين في اللغة العربية متقاربان ، وبينهما خصوص وعموم . فالأهل أخص ، والآل أعم .. فقد يطلق لفظ ( الآل ) ويراد به أهل بيت الرجل وأتباعه ، وقد جاء ذلك في قوله تعالى : فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ) وآل لوط وأهله هنا هم أفراد بيته وأتباعه في الدين . وقيل لم يكن معه سوى زوجته وابنتيه ( رغواء وريفاء ) ومن تبعه من المؤمنين .. 
ولوط عليه السلام يدخل مع أهل بيته حكماً ، لأن رب البيت ملاحظ في هذا الاستدلال ، بدليل قوله تعالى ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِفقد دخل في النص فرعون وآله أي من تابعه على الكفر من أقرباء وأتباع . فهو معذب قبلهم في البرزخ وفي الآخرة . 

ومن هذا القبيل قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام ( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى* إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى*فالمراد بالأهل هنا : إما زوجته خاصة ، والتعبير عنها بالجمع لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم ، وإما : المراد بالأهل هم : المرأة والولد والخادم ، الذين كانوا بصحبته في تلك الليلة الشاتية المظلمة . 

ومن هذا المعنى أيضا قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام ( قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ، رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) فدَخَلَ إبراهيم وزجته سارة معاً في الخطاب . 
وقد يطلق لفظ ( الأهل ) ويراد به الزوجة خاصة ، لا يدخل معها غيرها ، كما في قوله تعالى على لسان امرأة العزيز قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فقول امرأة العزيز ( بأهلك ) هنا إنما كانت تعني به نفسها خاصة . 

وربما عبر القرآن بلفظ ( الأهل ) عن الأخ كما في قصة موسى وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* ) حيث اعتبر موسى أخاه ( هارون ) واحداً من أهله ، وهو كذلك . 

وقد يراد بالأهل الأبوان وأولادهما وزوجات الأبناء والأحفاد ، كما في قوله تعالى في قصة يوسف ( اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) حيث أراد أن يأتوه بوالده وأمه وسائر أفراد عائلة يعقوب وأبنائه وأحفاده وحاشيته . 

بل ربما جاء لفظ ( الأهل ) بمعنى صاحب شيء ، ومنه قوله تعالى ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ )يعني يا أصحاب الكتاب من يهود نصارى ...

وبناء على ما تقدم بيانه ، ومن استخدامات القرآن لمعنى لفظتي ( أهل ) و( آل ) نلاحظ أن المقصود بـ ( أهل البيت ) في آية الأحزاب (إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) 
هم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، لأن سياق الآيات من قبل ومن بعد يخص أمهات المؤمنين ولا يتعداهن إلى أية جهة أخرى ... ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يكون لابنته وصهره وأحفاده نقاء من الرجس وطهارة من الدنس ، فجمعهم كما ذكر في حديث الكساء ، ودعا لهم ، فألحقوا إلحاقا بأهل البيت المطهرين ، ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم .

وإذا تقرر هذا المعنى في الأذهان ، صار بالإمكان القول بجواز الصلاة على أمهات المؤمنين لأنهن ( أهل بيت النبي ) صلى الله عليه وسلم . لا أن يخص بذلك علي وفاطمة والحسن والحسين ونسلهم ، دون أمهات المؤمنين .. 

بل ويمكن أيضا أن نحمل معنى ( الأهل ) أو ( الآل ) على معنى الأتباع ، فيدخل تحتهما كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وبناء عليه نقول بجواز الصلاة عليهم تبعا للصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . لأنهم أيضا ( آل النبي ) وأتباعه ، وقد ورد النص بالصلاة على ( الآل ) . 

ولكن هل يصلى على غير الأنبياء صلاة مستقلة ؟ فيقال مثلا : اللهم صل على فلان بن فلان ؟ أم لا يجوز أن يصلى إلا على الأنبياء .؟ هذان قولان للعلماء . أخذ بالجواز قوم ، فرووا أحاديث تؤيد مذهبهم منها :

ما جاء في صحيح البخاري :

عند قَوْلِهِ تَعَالَى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) قال البخاري : حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ عَمْرٍو ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلاَنٍ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى . 

وجاء في عمدة القاري :

في حديث الباب عن عبد الله ابن أبي أوفى قال كان رسول الله إذا أتى بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه أبي بصدقة فقال اللهم صل على آل أبي أوفى وفي حديث آخر إن امرأة قالت يا رسول الله صل عليَّ وعلى زوجي فقال صلى الله عليك وعلى زوجك .. وذلك قوله تعالى : ( إن صلاتك سكن لهم ) . ومن هذه النصوص يرى قوم جواز الصلاة على أي شخص ، لأن الصلاة هنا معناها الدعاء للشخص بأن يرحمه الله ويغفر له .. وهذا عندهم جائز . قَالَ أَحْمَد بن حنبل وَجَمَاعَة : يُصَلَّى عَلَى كُلّ وَاحِد مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَقِلًّا وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيث الْبَاب ...
احتج بالحديث المذكور ـ يعني: قوله: اللهم صل على آل أبي 


أوفى ـ من جوز الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 

بالاسقلال، وهو قول أحمد أيضا. وقال أبو حنيفة وأصحابه 

ومالك والشافعي والأكثرون: إنه لا يصلى على غير الأنبياء 

عليهم الصلاة والسلام استقلالا فلا يقال: اللهم صل على آل أبي 

بكر ولا على آل عمر أوغيرهما، ولكن يصلى عليهم تبعا. انتهى.
ومنع من ذلك فريق آخر ، فقالوا : هذا الأمر يؤخذ من استعمال السلف ، لأنهم هم الأقرب إلى فهم النصوص ، وَلَمْ يُنْقَل اِسْتِعْمَالهمْ ذَلِكَ ، وإنما خَصُّوا الْأَنْبِيَاء بالصلاة عليهم وحدهم ، مثلما خَصُّوا اللَّه تَعَالَى بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيح وحده . وَأَمَّا الصَّلَاة عَلَى الْآلِ وَالْأَزْوَاج وَالذُّرِّيَّة فَإِنَّمَا جَاءَ عَلَى التَّبَع لَا عَلَى الِاسْتِقْلَال ، وَيَحْتَمِل فِي التابع مَا لَا يَحْتَمِل اِسْتِقْلَالًا . وقد استدل هؤلاء بأحاديث منها : 

ما جاء في كتاب : المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - لأبي العباس القرطبي قال :

عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ ؛ أَنَّهُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ قَالَ : ( قُولُوا : اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) . فقد صلى عليهم تبعا كما ترى ...


قال النووي في شرحمسلموقوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ـ 

احتج به من أجاز الصلاة على غير الأنبياء, وهذا مما اختلف العلماء فيه, 

فقال الشافعي ـ رحمهما الله تعالى والأكثرون: لا يصلى على غير الأنبياء 

استقلالا، فلا يقال: اللهم صل على أبي بكر, أو علي, أو غيرهم، ولكن 

يصلى عليهم تبعا فيقال: اللهم صل على محمد وآل محمد وأصحابه  

وأزواجه وذريته, كما جاءت به الأحاديث.

وقال أحمد وجماعة: يصلى على كل واحد من المؤمنين مستقلا، واحتجوا 

بأحاديث الباب, وبقوله صلى الله علييه وسلم: اللهم صل على آل أبي أوفى ـ 

وكان إذا أتاه قوم بصدقتهم صلى عليهم ـ وقالوا: وهو موافق لقول الله 

تعالى: هو الذي يصلي عليكم وملائكته
ولهذا هنالك شبه إجماع بين علماء الأمة على جواز أن نقول ( اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم ) فنذكر الصحب مع الآل . ولم يشذ عن ذلك إلا الشيعة ، الذين يعادون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، كما يعادون زوجاته أمهات المؤمنين ، ويأمرون بسبهم ، ويحرمون الصلاة عليهم .. والعياذ بالله من حال أهل النار ,!!؟