قال الرازي في تفسيره أما قوله تعالى:
{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } فاعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد منه كونه مستقراً على العرش ويدل على فساده وجوه عقلية، ووجوه نقلية. أما العقلية فأمور: أولها: أنه لو كان مستقراً على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهياً وإلا لزم كون العرش داخلاً في ذاته وهو محال، وكل ما كان متناهياً فإن العقل يقضي بأنه لا يمنع أن يصير أزيد منه أو أنقص منه بذرة والعلم بهذا الجواز ضروري، فلو كان الباري تعالى متناهياً من بعض الجوانب لكانت ذاته قابلة للزيادة والنقصان، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر، وكل ما كان كذلك فهو محدث، فثبت أنه تعالى لو كان على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهياً، ولو كان كذلك لكان محدثاً وهذا محال فكونه على العرش يجب أن يكون محالاً. وثانيها: لو كان في مكان وجهة لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات، وإما أن يكون متناهياً في كل الجهات. وإما أن يكون متناهياً من بعض الجهات دون البعض والكل باطل فالقول بكونه في المكان والحيز باطل قطعاً.
فثبت أنه تعالى لو كان حاصلاً في الحيز والجهة، لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات وإما أن يكون متناهياً من كل الجهات، أو كان متناهياً من بعض الجهات، وغير متناه من سائر الجهات، فثبت أن الأقسام الثلاثة باطلة، فوجب أن نقول القول بكونه تعالى حاصلاً في الحيز والجهة محال.ثم قال لو امتنع وجود الباري تعالى إلا بحيث يكون مختصاً بالحيز والجهة، لكانت ذات الباري مفتقرة في تحققها ووجودها إلى الغير، وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته ينتج أنه لو امتنع وجود الباري إلا في الجهة والحيز، لزم كونه ممكناً لذاته، ولما كان هذا محالاً كان القول بوجوب حصوله في الحيز محالاً.
ثم قال إذا ثبت هذا فلو كان ذات الله تعالى مختصة بجهة وحيز لكانت ذاته مفتقرة إلى ذلك الحيز، وكان ذلك الحيز غنياً تحققه عن ذات الله تعالى وحينئذ يلزم أن يقال: الحيز واجب لذاته غني عن غيره وأن يقال ذات الله تعالى مفتقرة في ذاتها واجبة بغيرها وذلك يقدح في قولنا: الإله تعالى واجب الوجود لذاته.
فإن قيل: الحيز والجهة ليس بأمر موجود حتى يقال ذات الله تعالى مفتقرة إليه ومحتاجة إليه
فنقول: هذا باطل قطعاً لأن بتقدير أن يقال إن ذات الله تعالى مختصة بجهة فوق فإنما نميز بحسب الحس بين تلك الجهة وبين سائر الجهات وما حصل فيه الامتياز بحسب الحس كيف يعقل أن يقال إنه عدم محض ونفي صرف؟ ولو جاز ذلك لجاز مثله في كل المحسوسات وذلك يوجب حصول الشك في وجود كل المحسوسات، وذلك لا يقوله عاقل.
ثم قال أما الدلائل السمعية فكثيرة: أولها: قوله تعالى:
{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }
[الإخلاص: 1] فوصفه بكونه أحداً والأحد مبالغة في كونه واحداً. والذي يمتلىء منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركباً من أجزاء كثيرة جداً فوق أجزاء العرش، وذلك ينافي كونه أحداً
وثانيها: أنه تعالى قال:
{ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَـٰنِيَةٌ }
[الحاقة: 17] فلو كان إله العالم في العرش، لكان حامل العرش حاملاً للإله، فوجب أن يكون الإله محمولاً حاملاً، ومحفوظاً حافظاً، وذلك لا يقوله عاقل. وثالثها: أنه تعالى قال:
{ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ }
[محمد: 38] حكم بكونه غنياً على الإطلاق، وذلك يوجب كونه تعالى غنياً عن المكان والجهة. ورابعها: أن فرعون لما طلب حقيقة الإله تعالى من موسى عليه السلام ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات، فإنه لما قال:
{ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }
[الشعراء: 23] ففي المرة الأولى قال:
{ رَبِّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ }
[الدخان: 7] وفي الثانية قال:
{ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ }
[الشعراء: 26] وفي المرة الثالثة:
{ قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ }
[الشعراء: 28] وكل ذلك إشارة إلى الخلاقية، وأما فرعون لعنه الله فإنه قال:
{ يٰهَـٰمَـٰنُ ٱبْنِ لِى صَرْحاً لَّعَـلّى أَبْلُغُ ٱلأَسْبَـٰبَ أَسْبَـٰبَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ }
[فطلب الإله في السماء، فعلمنا أن وصف الإله بالخلاقية، وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى، وسائر جميع الأنبياء، وجميع وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة
فنقول: هذا باطل قطعاً لأن بتقدير أن يقال إن ذات الله تعالى مختصة بجهة فوق فإنما نميز بحسب الحس بين تلك الجهة وبين سائر الجهات وما حصل فيه الامتياز بحسب الحس كيف يعقل أن يقال إنه عدم محض ونفي صرف؟ ولو جاز ذلك لجاز مثله في كل المحسوسات وذلك يوجب حصول الشك في وجود كل المحسوسات، وذلك لا يقوله عاقل.
ثم قال أما الدلائل السمعية فكثيرة: أولها: قوله تعالى:
{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }
[الإخلاص: 1] فوصفه بكونه أحداً والأحد مبالغة في كونه واحداً. والذي يمتلىء منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركباً من أجزاء كثيرة جداً فوق أجزاء العرش، وذلك ينافي كونه أحداً
وثانيها: أنه تعالى قال:
{ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَـٰنِيَةٌ }
[الحاقة: 17] فلو كان إله العالم في العرش، لكان حامل العرش حاملاً للإله، فوجب أن يكون الإله محمولاً حاملاً، ومحفوظاً حافظاً، وذلك لا يقوله عاقل. وثالثها: أنه تعالى قال:
{ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ }
[محمد: 38] حكم بكونه غنياً على الإطلاق، وذلك يوجب كونه تعالى غنياً عن المكان والجهة. ورابعها: أن فرعون لما طلب حقيقة الإله تعالى من موسى عليه السلام ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات، فإنه لما قال:
{ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }
[الشعراء: 23] ففي المرة الأولى قال:
{ رَبِّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ }
[الدخان: 7] وفي الثانية قال:
{ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ }
[الشعراء: 26] وفي المرة الثالثة:
{ قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ }
[الشعراء: 28] وكل ذلك إشارة إلى الخلاقية، وأما فرعون لعنه الله فإنه قال:
{ يٰهَـٰمَـٰنُ ٱبْنِ لِى صَرْحاً لَّعَـلّى أَبْلُغُ ٱلأَسْبَـٰبَ أَسْبَـٰبَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ }
[فطلب الإله في السماء، فعلمنا أن وصف الإله بالخلاقية، وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى، وسائر جميع الأنبياء، وجميع وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة
إذا ثبت هذا فنقول: أول الآية إشارة إلى ذكر ما يدل على الوجود والقدرة والعلم، وآخرها يدل أيضاً على هذا المطلوب، وإذ كان الأمر كذلك فقوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } وجب أن يكون أيضاً دليلاً على كمال القدرة والعلم، لأنه لو لم يدل عليه بل كان المراد كونه مستقراً على العرش كان ذلك كلاماً أجنبياً عما قبله وعما بعده، فإن كونه تعالى مستقراً على العرش لا يمكن جعله دليلاً على كماله في القدرة والحكمة وليس أيضاً من صفات المدح والثناء، لأنه تعالى قادر على أن يجلس جميع أعداد البق والبعوض على العرش وعلى ما فوق العرش، فثبت أن كونه جالساً على العرش ليس من دلائل إثبات الصفات والذات ولا من صفات المدح والثناء، فلو كان المراد من قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } كونه جالساً على العرش لكان ذلك كلاماً أجنبياً عما قبله وعما بعده، وهذا يوجب نهاية الركاكة، فثبت أن المراد منه ليس ذلك، بل المراد منه كمال قدرته في تدابير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها وهو المطلوب. وثامنها: أن السماء عبارة عن كل ما ارتفع وسما وعلا، والدليل عليه أنه تعالى سمى السحاب سماء حيث قال:
{ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن ٱلسَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ }
[الأنفال: 11] وإذا كان الأمر كذلك، فكل ماله ارتفاع وعلو وسمو كان سماء، فلو كان إله العالم موجوداً فوق العرش، لكان ذات الإله تعالى سماء لساكني العرش. فثبت أنه تعالى لو كان فوق العرش لكان سماء والله تعالى حكم بكونه خالقاً لكل السموات في آيات كثيرة منها هذه الآية وهو قوله: { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } فلو كان فوق العرش سماء لسكان أهل العرش لكان خالقاً لنفسه وذلك محال.وإذا ثبت هذا فنقول: قوله: { ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } آية محكمة دالة على أن قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } من المتشابهات التي يجب تأويلها، وهذه نكتة لطيفة، ونظير هذا أنه تعالى قال في أول سورة الأنعام:
{ وَهُوَ ٱللَّهُ فِىٱلسَّمَـٰوَاتِ }
[الأنعام: 3] ثم قال بعده بقليل:
{ قُل لِّمَن مَّا فِىٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ قُل لِلَّهِ }
[الأنعام: 12] فدلت هذه الآية المتأخرة على أن كل ما في السموات، فهو ملك لله فلو كان الله في السموات لزم كونه ملكاً لنفسه، وذلك محال فكذا ههنا، فثبت بمجموع هذه الدلائل العقلية والنقلية أنه لا يمكن حمل قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز، وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان: الأول: أن نقطع بكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله، وهو الذي قررناه في تفسير قوله:
{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرٰسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ }
[آل عمران: 7] وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه. وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان: الأول: أن نقطع بكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله، وهو الذي قررناه في تفسير قوله:
{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرٰسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ }
[آل عمران: 7] وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه.
والقول الثاني: أن نخوض في تأويله على التفصيل، وفيه قولان ملخصان: الأول: ما ذكره القفال رحمة الله عليه فقال: { ٱلْعَرْشِ } في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك، يقال: ثل عرشه أي انتفض ملكه وفسد. وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا: استوى على عرشه، واستقر على سرير ملكه، هذا ما قاله القفال. وأقول: إن الذي قاله حق وصدق وصواب، ونظيره قولهم للرجل الطويل: فلان طويل النجاد وللرجل الذي يكثر الضيافة كثير الرماد، وللرجل الشيخ فلان اشتعل رأسه شيباً، وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها، إنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا ههنا يذكر الاستواء على العرش، والمراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة، ثم قال القفال رحمه الله تعالى: والله تعالى لما دل على ذاته وعلى صفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم استقر في قلوبهم عظمة الله وكمال جلاله، إلا أن كل ذلك مشروط بنفي التشبيه، فإذا قال: إنه عالم فهموا منه أنه لا يخفى عليه تعالى شيء، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة ولا روية ولا باستعمال حاسة، وإذا قال: قادر علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات، وتكوين الممكنات، ثم علموا بعقولهم أنه غني في ذلك الإيجاد، والتكوين عن الآلات والأدوات، وسبق المادة والمدة والفكرة والروية، وهكذا القول في كل صفاته، وإذا أخبر أن له بيتاً يجب على عباده حجة فهموا منه أنه نصب لهم موضعاً يقصدونه لمسألة ربهم وطلب حوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه، وأنه لم يجعل ذلك البيت مسكناً لنفسه، ولم ينتفع به في دفع الحر والبرد بعينه عن نفسه، فإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه، ثم علموا بعقولهم أنه لا يفرح بذلك التحميد والتعظيم ولا يغتم بتركه والإعراض عنه. إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه تعالى أخبر أنه خلق السموات والأرض كما أراد وشاء من غير منازع ولا مدافع، ثم أخبر بعده أنه استوى على العرش، أي حصل له تدبير المخلوقات على ما شاء وأراد، فكان قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } أي بعد أن خلقها استوى على عرش الملك والجلال. ثم قال القفال: والدليل على أن هذا هو المراد قوله في سورة يونس:
{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ }
[يونس: 3] فقوله: { يُدَبّرُ ٱلاْمْرَ } جرى مجرى التفسير لقوله: { ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } وقال في هذه الآية التي نحن في تفسيرها: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِى الليل النهارَ يطلبهُ حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر } وهذا يدل على أن قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } إشارة إلى ما ذكرناه
[الأنفال: 11] وإذا كان الأمر كذلك، فكل ماله ارتفاع وعلو وسمو كان سماء، فلو كان إله العالم موجوداً فوق العرش، لكان ذات الإله تعالى سماء لساكني العرش. فثبت أنه تعالى لو كان فوق العرش لكان سماء والله تعالى حكم بكونه خالقاً لكل السموات في آيات كثيرة منها هذه الآية وهو قوله: { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } فلو كان فوق العرش سماء لسكان أهل العرش لكان خالقاً لنفسه وذلك محال.وإذا ثبت هذا فنقول: قوله: { ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } آية محكمة دالة على أن قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } من المتشابهات التي يجب تأويلها، وهذه نكتة لطيفة، ونظير هذا أنه تعالى قال في أول سورة الأنعام:
{ وَهُوَ ٱللَّهُ فِىٱلسَّمَـٰوَاتِ }
[الأنعام: 3] ثم قال بعده بقليل:
{ قُل لِّمَن مَّا فِىٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ قُل لِلَّهِ }
[الأنعام: 12] فدلت هذه الآية المتأخرة على أن كل ما في السموات، فهو ملك لله فلو كان الله في السموات لزم كونه ملكاً لنفسه، وذلك محال فكذا ههنا، فثبت بمجموع هذه الدلائل العقلية والنقلية أنه لا يمكن حمل قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز، وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان: الأول: أن نقطع بكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله، وهو الذي قررناه في تفسير قوله:
{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرٰسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ }
[آل عمران: 7] وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه. وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان: الأول: أن نقطع بكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله، وهو الذي قررناه في تفسير قوله:
{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرٰسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ }
[آل عمران: 7] وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه.
والقول الثاني: أن نخوض في تأويله على التفصيل، وفيه قولان ملخصان: الأول: ما ذكره القفال رحمة الله عليه فقال: { ٱلْعَرْشِ } في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك، يقال: ثل عرشه أي انتفض ملكه وفسد. وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا: استوى على عرشه، واستقر على سرير ملكه، هذا ما قاله القفال. وأقول: إن الذي قاله حق وصدق وصواب، ونظيره قولهم للرجل الطويل: فلان طويل النجاد وللرجل الذي يكثر الضيافة كثير الرماد، وللرجل الشيخ فلان اشتعل رأسه شيباً، وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها، إنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا ههنا يذكر الاستواء على العرش، والمراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة، ثم قال القفال رحمه الله تعالى: والله تعالى لما دل على ذاته وعلى صفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم استقر في قلوبهم عظمة الله وكمال جلاله، إلا أن كل ذلك مشروط بنفي التشبيه، فإذا قال: إنه عالم فهموا منه أنه لا يخفى عليه تعالى شيء، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة ولا روية ولا باستعمال حاسة، وإذا قال: قادر علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات، وتكوين الممكنات، ثم علموا بعقولهم أنه غني في ذلك الإيجاد، والتكوين عن الآلات والأدوات، وسبق المادة والمدة والفكرة والروية، وهكذا القول في كل صفاته، وإذا أخبر أن له بيتاً يجب على عباده حجة فهموا منه أنه نصب لهم موضعاً يقصدونه لمسألة ربهم وطلب حوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه، وأنه لم يجعل ذلك البيت مسكناً لنفسه، ولم ينتفع به في دفع الحر والبرد بعينه عن نفسه، فإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه، ثم علموا بعقولهم أنه لا يفرح بذلك التحميد والتعظيم ولا يغتم بتركه والإعراض عنه. إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه تعالى أخبر أنه خلق السموات والأرض كما أراد وشاء من غير منازع ولا مدافع، ثم أخبر بعده أنه استوى على العرش، أي حصل له تدبير المخلوقات على ما شاء وأراد، فكان قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } أي بعد أن خلقها استوى على عرش الملك والجلال. ثم قال القفال: والدليل على أن هذا هو المراد قوله في سورة يونس:
{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ }
[يونس: 3] فقوله: { يُدَبّرُ ٱلاْمْرَ } جرى مجرى التفسير لقوله: { ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } وقال في هذه الآية التي نحن في تفسيرها: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِى الليل النهارَ يطلبهُ حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر } وهذا يدل على أن قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } إشارة إلى ما ذكرناه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق