ابن تيمية يستشهد بأثر ملفّق على مسائل القبور.الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد، فأقول: نعم، هذا صحيح للأسف، بل إن ابن تيمية رحمه الله
يجعله أحد الأعمدة التي أقام عليها مفهوم توحيد الألوهية، والتي أفرزت القول بتكفير الناس والحكم على المسلمين بالشرك الأكبر أو الـأصغر أو التبديع أو التضليل من أجل مسائل القبور كشدّ الرحال إليها أو الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن عندها أو تقبيلها أو التبرك بها أو التوسل بأصحابها ونحو ذلك.
ويا ليت الأمر وقف عند ابن تيمية، إذن لقلنا إنه أفضى إلى ما قدم، ولكن ما الحلية مع أناس جعلوا قوله حَكما عدلا، وقلّدوه في كل شيء حتى في الأمور التي وَهم فيها ـ هذا عند إحسان ظن خصومه به ـ والطريف أن أتباعه ـ كالألباني مثلا ـ ينكرون على الناس تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، تحت دعوى الاجتهاد والعمل بالدليل والقول الراجح ونبذ التقليد.
ولندخل في الموضوع، إن ابن تيمية حين قسّم التوحيد إلى توحيد ألوهية وتوحيد ربوبية، وذهب إلى أن على المرء أن يُقرّ بكلا القسمين ولا يأتي بما ينافيهما أو بما ينقضهما، اعتبر أن مسائل القبور تنقض توحيد الألوهية، وأن من يفعلها فإنه من عبّاد القبور، بناء على المفهوم الجديد للعبادة عنده، واحتج على كل ذلك بعدة أمور منها أثر ملفق لابن عباس فما هو؟
لنستمع لابن تيمية وهو يسرد هذا الأثر، ثم نرى تعليقه عليه وما فهمه منه، يقول ابن تيمية: "واتفق الأئمة على أنه لا يتمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقبله [1]، وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} قالوا: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا على صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها. وقد ذكر هذا المعنى البخاري في صحيحه، عن ابن عباس، وذكره محمد بن جرير الطبري وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف، وذكره "وثيمة" وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق( [2]).اهـ
فمن هذا النص يتبين أثر ابن عباس وهو "هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا على صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوه" وقد نسب ابن تيمية معنى هذا الأثر إلى البخاري وغيره، واستنبط منه ابن تيمية أن بناء المساجد على القبور شرك، وأنه لا يُقبّل قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتمسح به.
وقد أورد هذا الأثرَ أتباعُ ابنِ تيمية محتفين به، لا يفتأون يرددونه ويستنبطون منه "الفرائد والفوائد"، مقلدين لشيخهم في ذلك، فممن من أورده ابن القيم [3]، وابن عبد الهادي في الصارم المنكي [4]، وابن أبي العز مستنبطا منه أن هذه الأسماء الخمسة في سورة نوح هي:" تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله، وهذا كان أصل شرك العرب( [5])"، والشوكاني في كتابه شرح الصدور بتحريم رفع القبور [6]، وابن عبد الوهاب في كتابه التوحيد تحت عنوان باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم وهو الغلو في الصالحين( [7]).
وقد اهتم ابن عبد الوهاب بهذا الأثر كثيرا لأنه سيُحْكم به تهمةَ الكفر على خصومه ممن يخالفوه في مسائل القبور، إذ سيقول لهم: لا فرق بينكم وبين كفار قريش لأن كلاكما تعبدون الصالحين، ولن يستطيعوا أن يقولوا له: إن المشركين كانوا يعبدون الأصنام، لأن ابن عبد الوهاب سيرد عليهم بالقول:قد دل أثرُ ابن عباس هذا على أن الأصنام التي كانوا يعبدونها ما كانت إلا تماثيل لقوم صالحين اتخذوهم شفعاء وتوسلوا بهم تماما كما تفعلون.
وقد استدل بهذا الأثر كثير من أتباع ابن عبد الوهاب، وعلى رأسهم ابن قيصر الأفغاني وشيوخه الذين استنبطوا من الأثر منشأ عبادة القبور حيث قالوا:" عبادة القبور - هي أصل شرك العالم ، وأن المشركين القبوريين قد ظهروا في عهد نوح عليه الصلاة والسلام بسبب عبادة هؤلاء الأولياء الخمسة، وعكوف القبورية في ذلك العهد على قبورهم، وبذلك وجدت القبورية على الأرض، ثم تطورت القبورية حتى انتشرت في العرب وغيرهم"( [8]).
والجواب على هذا الأثر من وجوه:
الوجه الأول: إن هذا الأثر الذي ذكرتموه عن ابن عباس وردّدتُموه كثيرا ونسبه ابنُ تيمية وتابعه ابن أبي العز وابن قيصر الأفغاني ـ إلى صحيح البخاري: لا وجود له بهذا اللفظ الذي سرده ابن تيمية وبعض أتباعه،وإليكم الأثر بإسناده ولفظه من صحيح البخاري:
قال البخاري في صحيحه في كتاب التفسير: باب { ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق}؛ حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن ابن جريج . وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ؛ أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ، ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَإٍ، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ، أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ، وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ " [9].اهـ
فهذا هو لفظ البخاري فأين فيه "فلما ماتوا عكفوا على قبورهم" كما نقله ابن تيمية وبعض أتباعه؟ بل هل للقبور ذِكْر قط في أثر البخاري هذا عن ابن عباس؟! فيا حسرة على العلم والورع والتقوى ماذا بقي منه؟! فكم أورد المخالفون هذا الأثر محرّفا؛ وكم كفّروا به المسلمين واستحلوا دمائهم؟! فانظر كيف تُستباح الدماء بروايات لا وجود لها أصلا؟ وليس هذا فحسب بل تراهم ينسبون هذا الأثر إلى البخاري، وكم تكرر هذا الأثر في كتب ابن تيمية، ولكن ليس بلفظ البخاري بل باللفظ الملفق السابق، وتراه تارة ينسبه إلى السلف فيقول "قال السلف كابن عباس وغيره "( [10]) وتارة يقول: "قال غير واحد من الصحابة والتابعين"( [11])، ومرة قال بعد أن نسبه لابن عباس: وهذا مشهور في كتب التفسير والحديث وغيرها كالبخاري وغيره( [12]). ومرة قال: وقد ذكر البخاري في صحيحه هذا عن ابن عباس( [13]). ومرة قال "قال طائفة من السلف( [14])" ومرة قال : "وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه وبسطه وبينه في أول كتابه في قصص الأنبياء وغيرها( [15]). إلى غير ذلك من المواضع الكثيرة التي أوردها فيه( [16]).
أليس من حق المرء أن يقول: إن هذا كذب وافتراء؟ فضلا عن أنه تحريف [17] وتدليس حين يَجزم ابنُ تيمية بنسبة الأثر إلى ابن عباس في البخاري بلفظ "فلما ماتوا عكفوا على قبورهم"، وابنُ تيمية يَعلم قبل غيره أن البخاري لم يروه بهذا اللفظ، فابن تيمية نفسه سرده في إحدى المواضع باللفظ المذكور فعلا في البخاري( [18])؛ فلِمَ يكرر ابن تيمية اللفظ المحرّف ويدع اللفظ الصحيح؟ وما هدفُ ابن تيمية من ذلك؟
إن هدفه هو القول : " وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان"( [19]).
وبالتالي ليُكفّر أو يُضلل المسلمين الذين يتمسحون بالقبور أو يسافرون إليها أو يَدْعون عندها ونحو ذلك، فيكون ابن تيمية ارتكب الكذبَ ليُكفّر المسلمين، وهذه ظلمات بعضها فوق بعض، فنعوذ بالله من الخذلان.
ويا ليت الأمر وقف عند ابن تيمية كما قلنا سابقا، بل ترى بعض أتباعه قلدوه في هذا التدليس والكذب، فهذا ابن أبي العز الحنفي يقول: وقد ثبت في صحيح البخاري، وكتب التفسير، وقصص الأنبياء وغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من السلف( [20]). وابن أبي العز مقلدٌ لابن تيمية في هذا العزو كما سبق.
وترى ابنَ قيصر الأفغاني ينقل هذا عن ابن أبي العز دون أن يبيّن أن هذا كذبٌ على البخاري؛ بل إن الأفغاني ذكر في حاشية كتابه تعليقا على عزو ابن أبي العز للبخاري رقم الجزء والصفحة في صحيح البخاري وأحال أيضا إلى شرّاح البخاري كفتح الباري وغيره( [21]).
وهذا كله كذب يستحله الأفغاني كما استحله شيوخه ليرمي المسلمين بالشرك؛ فتأمل كيف ملأ الأفغاني كتابه بالشتم ورمي الأمة وعلماءها بالكذب( [22]) والتدليس والقرمطة، ثم يرتكب الأفغانيُّ كلَ ذلك جهارا نهارا، ويعزو إلى البخاري ما ليس فيه ولا في غيره أصلا، وإنما هو لفظ اخترعه شيخُه ليُروّج بدعته على الناس في تقسيم التوحيد وما بنى عليه من الشرك في مسائل القبور.
فانظر كيف اتخذ ابنُ قيصر الأفغاني ومن على شاكلته: ابنَ تيمية ربّا، أحل له الحرام كالكذب، وحرّم عليه الحلال كالتوسل الذي جاء في حديث الأعمى!! فأشرك الأفغاني في توحيد الربوبية التي لم يُشرك فيها أبو جهل كما قال الأفغاني وشيوخه، فصار الأفغاني أسوأ من أبي جهل، وبذلك ترتد هذه السُّبة التي قذف بها أئمة المسلمين وجعل أبا جهل أفضل منهم، ترتد إلى الأفغاني نفسه، وكفى بالله نصيرا، فهو تعالى القائل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } [الحج: 38].
وتعالوا إلى الألباني الذي يرمي الأمةَ وكبارَ الحفاظ بالتقليد الأعمى؛ فلقد خرّج الأحاديث التي أوردها ابن أبي العز في شرحه للطحاوية فماذا قال عن أثر ابن عباس باللفظ المحرّف؟ هل نبّه إلى أن هذا اللفظ لا وجود له، وأن من عزاه إلى البخاري فقد أخطأ.
لنستمع ماذا قال الألباني تعليقا على أثر ابن عباس: صحيح وهو موقوف بحكم المرفوع( [23]).اهـ هكذا قال الألباني فتأمل أعاذنا الله وإياك من الهوى. إن الألباني يقيم الدنيا ولا يقعدها إذا استدل أحد من العلماء بحديث ضعيف، ولكن الألباني يرتكب هنا ما هو أشد، إذ هو يجعل الموضوع صحيحا؟ فتأمل وسل الله الرشاد!!
فإن قيل: ربما قصد الألباني وابن تيمية وغيره أن الأثر أصله في البخاري، ويكون اللفظ الذي أورده ابن تيمية مروي بالمعنى عند غير البخاري كما صرح بذلك في أحد المواضع، والرواية بالمعنى جائزة.
قلنا: هذا غير صحيح، لوجوه؛ الأول: أن ابن تيمية جزم مواضع كثيرة أن البخاري أخرج الأثر بلفظ "فلما ماتوا عكفوا على قبورهم" كما سبق؛ وكونه صرّح في موضع أن البخاري رواه بالمعنى، فهذا لا ينفعه بل يؤكد أنه هو نفسه يعلم بأنه ليس في البخاري باللفظ الملفق، فلم نسبه في سائر المواضع إلى البخاري جزما؟
الثاني: أن اللفظ الملفق الذي أورده ابن تيمية لا وجود له في البخاري ولا في غيره. فإني قد بحثت عبر الحاسوب في آلاف كتب التفسير والحديث والتاريخ واللغة والفقه وغير ذلك فلم أجد هذا اللفظ إلا في كتب ابن تيمية وفي كتب أتباعه من بعده، فكل من ذكره بعده فقد أخذه منه تقليدا كابن كثير وابن القيم وابن أبي العز وابن عبد الوهاب والشوكاني والأفغاني سواء نسبه لابن عباس أو لبعض السلف.
الثالث: أن الرواية بالمعنى جائزة في العصور الأولى قبل التدوين، ولكن بعد التدوين يجب نقل الأحاديث من الكتب المسندة بلفظها [24]، بل إن الصلاح ذكر أن النقل من الكتب لا يجوز أن يكون بالمعنى ولا يجري الخلاف الواقع في رواية الأحاديث بالمعنى، وفي ذلك يقول: "ثم إن هذا الخلاف لا نراه جاريا - ولا أجراه الناس فيما نعلم - فيما تضمنته بطون الكتب فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف ويثبت بدله فيه لفظا آخر بمعناه فإن الرواية بالمعنى رخص فيها من رخص لما كان عليهم في ضبط الألفاظ والجمود عليها من الحرج والنصب وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطون الأوراق والكتب ولأنه إن ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غيره" [25].
الرابع: إن الرواية بالمعنى يُشترط فيها العلم بمعاني الألفاظ ومقاصدها لئلا يُحيل المعنى وإلا فلا تجوز الرواية بالمعنى اتفاقا [26]، وهذا الشرط غير متحقق هنا، إذ رواية البخاري لا ذكر فيها للقبور أصلا، بل هي مقحمة في الرواية المحرفة والملفقة إقحاما؛ فأي رواية بالمعنى هذه التي تقحم ألفاظا في الحديث تقلبه رأسا على عقب، ولاسيما ونحن في مقام الحجاج والمناظرة في أخطر المسائل التي رتب عليها ابن تيمية وأتباعه التكفير وسفك للدماء؟
والخلاصة أن أثر ابن عباس باللفظ الذي أورده ابن تيمية وأتباعه لا وجود له في البخاري ولا في غيره، وللأسف ما زال كثير من السلفية حتى وقتنا هذا ـ ونحن في ثورة المعلومات ـ ينقلون هذا الأثر المخترع وينسبونه إلى البخاري مقلدين ابنَ تيمية في ذلك، وينشرونه على الشبكة العالمية [27].
نعم، وللإنصاف أقول: إن كثير من أتباع من ابن تيمية مثل ابن القيم وابن عبد الوهاب وآخرين سبق ذكرهم في الحاشية ـ ذَكروا أثرَ ابنِ عباس المحرّف الملفق ولكن لم ينسبوه إلى البخاري كما فعل ابن تيمية، وإنما نسبوه لبعض السلف، بعد أن عَرفوا أن هذا الأثر لا وجود له في صحيح البخاري باللفظ المخترع؛ ولكن هذا لا يكفي، كان الواجب على هؤلاء ـ على الأقل ـ أن يصرحوا بأن ابن تيمية َوهِم في نسبة الأثر إلى البخاري، وهذا أضعف الإيمان، ولكن حتى هذا لم ينبّه إليه ابن القيم والآخرون الذين علموا بأن الأثر لا وجود له في البخاري.
ولو أن أحد الأشاعرة أو الصوفية وقع فيما وقع فيه ابن تيمية هذا لانهال السلفية عليه بشتى السبائب والشتائم واتهامه بالكذب والتضليل ووو.....، تماما كما فعلوا مع من قال من أصحابنا [28] بأن الرجل الذي جاء قبر النبي مستسقيا كما في أثر مالك الدار، هو الصحابي بلال المزني، فانهالوا عليه بالسبائب والشتائم والكذب [29]، مع أنه ورد في بعض الروايات أنه فعلا هو ذلك الصحابي ولكنها روايات ضعيفة كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح، فكان إنكاركم هنا فيما فعله ابن تيمية في أثر ابن عباس: أولى ؛ لأن هذا الأثر الذي أورده لا وجود له قط لا في رواية صحيحة ولاضعيفة ولا موضوعة.
فلماذا تقيمون الدنيا على خصومكم وتتغاضون عما فعله ابنُ تيمية، مع أنه فعَل ما هو أشنع كما هو موضح، فهل هو الهوى؟ فإيكم وإياه لأن الهوى عُبد إلها من دون الله، كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43]؛ ولاسيما وأنكم تحذّرون من مسائل القبور لئلا تتخذ القبور آلهة من دون الله حفاظا على توحيد الألوهية، فالهوى أولى بالتحذير والبعد منه، لأنه منصوص عليه في الآية السابقة بخلاف مسائل القبور فغايتها اجتهاد لابن تيمية.
ثم إن عزو ابن القيم وابن عبد الوهاب الأثر المحرف إلى بعض السلف، هو أيضا نسبة غير صحيحة، فهذا الأثر لم يرد في آلاف الكتب التي بحثت فيها ـ عن أحد ، لا عن السلف ولا عن الخلف إلى أن جاء ابن تيمية فسطّره في كتبه، فالعهدة عليه، فقول ابن القيم ومن تبعه إنه منقول السلف: لا يجدي، لأنه إصلاح للكذب بمثله، فكان الواجب عليه أن يقول هذا أثر باطل لا وجود له قط ولم يثبت مرفوعا ولا موقوفا ولا مقطوعا ولا عن أحد.
يجعله أحد الأعمدة التي أقام عليها مفهوم توحيد الألوهية، والتي أفرزت القول بتكفير الناس والحكم على المسلمين بالشرك الأكبر أو الـأصغر أو التبديع أو التضليل من أجل مسائل القبور كشدّ الرحال إليها أو الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن عندها أو تقبيلها أو التبرك بها أو التوسل بأصحابها ونحو ذلك.
ويا ليت الأمر وقف عند ابن تيمية، إذن لقلنا إنه أفضى إلى ما قدم، ولكن ما الحلية مع أناس جعلوا قوله حَكما عدلا، وقلّدوه في كل شيء حتى في الأمور التي وَهم فيها ـ هذا عند إحسان ظن خصومه به ـ والطريف أن أتباعه ـ كالألباني مثلا ـ ينكرون على الناس تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، تحت دعوى الاجتهاد والعمل بالدليل والقول الراجح ونبذ التقليد.
ولندخل في الموضوع، إن ابن تيمية حين قسّم التوحيد إلى توحيد ألوهية وتوحيد ربوبية، وذهب إلى أن على المرء أن يُقرّ بكلا القسمين ولا يأتي بما ينافيهما أو بما ينقضهما، اعتبر أن مسائل القبور تنقض توحيد الألوهية، وأن من يفعلها فإنه من عبّاد القبور، بناء على المفهوم الجديد للعبادة عنده، واحتج على كل ذلك بعدة أمور منها أثر ملفق لابن عباس فما هو؟
لنستمع لابن تيمية وهو يسرد هذا الأثر، ثم نرى تعليقه عليه وما فهمه منه، يقول ابن تيمية: "واتفق الأئمة على أنه لا يتمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقبله [1]، وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} قالوا: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا على صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها. وقد ذكر هذا المعنى البخاري في صحيحه، عن ابن عباس، وذكره محمد بن جرير الطبري وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف، وذكره "وثيمة" وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق( [2]).اهـ
فمن هذا النص يتبين أثر ابن عباس وهو "هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا على صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوه" وقد نسب ابن تيمية معنى هذا الأثر إلى البخاري وغيره، واستنبط منه ابن تيمية أن بناء المساجد على القبور شرك، وأنه لا يُقبّل قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتمسح به.
وقد أورد هذا الأثرَ أتباعُ ابنِ تيمية محتفين به، لا يفتأون يرددونه ويستنبطون منه "الفرائد والفوائد"، مقلدين لشيخهم في ذلك، فممن من أورده ابن القيم [3]، وابن عبد الهادي في الصارم المنكي [4]، وابن أبي العز مستنبطا منه أن هذه الأسماء الخمسة في سورة نوح هي:" تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله، وهذا كان أصل شرك العرب( [5])"، والشوكاني في كتابه شرح الصدور بتحريم رفع القبور [6]، وابن عبد الوهاب في كتابه التوحيد تحت عنوان باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم وهو الغلو في الصالحين( [7]).
وقد اهتم ابن عبد الوهاب بهذا الأثر كثيرا لأنه سيُحْكم به تهمةَ الكفر على خصومه ممن يخالفوه في مسائل القبور، إذ سيقول لهم: لا فرق بينكم وبين كفار قريش لأن كلاكما تعبدون الصالحين، ولن يستطيعوا أن يقولوا له: إن المشركين كانوا يعبدون الأصنام، لأن ابن عبد الوهاب سيرد عليهم بالقول:قد دل أثرُ ابن عباس هذا على أن الأصنام التي كانوا يعبدونها ما كانت إلا تماثيل لقوم صالحين اتخذوهم شفعاء وتوسلوا بهم تماما كما تفعلون.
وقد استدل بهذا الأثر كثير من أتباع ابن عبد الوهاب، وعلى رأسهم ابن قيصر الأفغاني وشيوخه الذين استنبطوا من الأثر منشأ عبادة القبور حيث قالوا:" عبادة القبور - هي أصل شرك العالم ، وأن المشركين القبوريين قد ظهروا في عهد نوح عليه الصلاة والسلام بسبب عبادة هؤلاء الأولياء الخمسة، وعكوف القبورية في ذلك العهد على قبورهم، وبذلك وجدت القبورية على الأرض، ثم تطورت القبورية حتى انتشرت في العرب وغيرهم"( [8]).
والجواب على هذا الأثر من وجوه:
الوجه الأول: إن هذا الأثر الذي ذكرتموه عن ابن عباس وردّدتُموه كثيرا ونسبه ابنُ تيمية وتابعه ابن أبي العز وابن قيصر الأفغاني ـ إلى صحيح البخاري: لا وجود له بهذا اللفظ الذي سرده ابن تيمية وبعض أتباعه،وإليكم الأثر بإسناده ولفظه من صحيح البخاري:
قال البخاري في صحيحه في كتاب التفسير: باب { ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق}؛ حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن ابن جريج . وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ؛ أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ، ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَإٍ، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ، أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ، وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ " [9].اهـ
فهذا هو لفظ البخاري فأين فيه "فلما ماتوا عكفوا على قبورهم" كما نقله ابن تيمية وبعض أتباعه؟ بل هل للقبور ذِكْر قط في أثر البخاري هذا عن ابن عباس؟! فيا حسرة على العلم والورع والتقوى ماذا بقي منه؟! فكم أورد المخالفون هذا الأثر محرّفا؛ وكم كفّروا به المسلمين واستحلوا دمائهم؟! فانظر كيف تُستباح الدماء بروايات لا وجود لها أصلا؟ وليس هذا فحسب بل تراهم ينسبون هذا الأثر إلى البخاري، وكم تكرر هذا الأثر في كتب ابن تيمية، ولكن ليس بلفظ البخاري بل باللفظ الملفق السابق، وتراه تارة ينسبه إلى السلف فيقول "قال السلف كابن عباس وغيره "( [10]) وتارة يقول: "قال غير واحد من الصحابة والتابعين"( [11])، ومرة قال بعد أن نسبه لابن عباس: وهذا مشهور في كتب التفسير والحديث وغيرها كالبخاري وغيره( [12]). ومرة قال: وقد ذكر البخاري في صحيحه هذا عن ابن عباس( [13]). ومرة قال "قال طائفة من السلف( [14])" ومرة قال : "وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه وبسطه وبينه في أول كتابه في قصص الأنبياء وغيرها( [15]). إلى غير ذلك من المواضع الكثيرة التي أوردها فيه( [16]).
أليس من حق المرء أن يقول: إن هذا كذب وافتراء؟ فضلا عن أنه تحريف [17] وتدليس حين يَجزم ابنُ تيمية بنسبة الأثر إلى ابن عباس في البخاري بلفظ "فلما ماتوا عكفوا على قبورهم"، وابنُ تيمية يَعلم قبل غيره أن البخاري لم يروه بهذا اللفظ، فابن تيمية نفسه سرده في إحدى المواضع باللفظ المذكور فعلا في البخاري( [18])؛ فلِمَ يكرر ابن تيمية اللفظ المحرّف ويدع اللفظ الصحيح؟ وما هدفُ ابن تيمية من ذلك؟
إن هدفه هو القول : " وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان"( [19]).
وبالتالي ليُكفّر أو يُضلل المسلمين الذين يتمسحون بالقبور أو يسافرون إليها أو يَدْعون عندها ونحو ذلك، فيكون ابن تيمية ارتكب الكذبَ ليُكفّر المسلمين، وهذه ظلمات بعضها فوق بعض، فنعوذ بالله من الخذلان.
ويا ليت الأمر وقف عند ابن تيمية كما قلنا سابقا، بل ترى بعض أتباعه قلدوه في هذا التدليس والكذب، فهذا ابن أبي العز الحنفي يقول: وقد ثبت في صحيح البخاري، وكتب التفسير، وقصص الأنبياء وغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من السلف( [20]). وابن أبي العز مقلدٌ لابن تيمية في هذا العزو كما سبق.
وترى ابنَ قيصر الأفغاني ينقل هذا عن ابن أبي العز دون أن يبيّن أن هذا كذبٌ على البخاري؛ بل إن الأفغاني ذكر في حاشية كتابه تعليقا على عزو ابن أبي العز للبخاري رقم الجزء والصفحة في صحيح البخاري وأحال أيضا إلى شرّاح البخاري كفتح الباري وغيره( [21]).
وهذا كله كذب يستحله الأفغاني كما استحله شيوخه ليرمي المسلمين بالشرك؛ فتأمل كيف ملأ الأفغاني كتابه بالشتم ورمي الأمة وعلماءها بالكذب( [22]) والتدليس والقرمطة، ثم يرتكب الأفغانيُّ كلَ ذلك جهارا نهارا، ويعزو إلى البخاري ما ليس فيه ولا في غيره أصلا، وإنما هو لفظ اخترعه شيخُه ليُروّج بدعته على الناس في تقسيم التوحيد وما بنى عليه من الشرك في مسائل القبور.
فانظر كيف اتخذ ابنُ قيصر الأفغاني ومن على شاكلته: ابنَ تيمية ربّا، أحل له الحرام كالكذب، وحرّم عليه الحلال كالتوسل الذي جاء في حديث الأعمى!! فأشرك الأفغاني في توحيد الربوبية التي لم يُشرك فيها أبو جهل كما قال الأفغاني وشيوخه، فصار الأفغاني أسوأ من أبي جهل، وبذلك ترتد هذه السُّبة التي قذف بها أئمة المسلمين وجعل أبا جهل أفضل منهم، ترتد إلى الأفغاني نفسه، وكفى بالله نصيرا، فهو تعالى القائل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } [الحج: 38].
وتعالوا إلى الألباني الذي يرمي الأمةَ وكبارَ الحفاظ بالتقليد الأعمى؛ فلقد خرّج الأحاديث التي أوردها ابن أبي العز في شرحه للطحاوية فماذا قال عن أثر ابن عباس باللفظ المحرّف؟ هل نبّه إلى أن هذا اللفظ لا وجود له، وأن من عزاه إلى البخاري فقد أخطأ.
لنستمع ماذا قال الألباني تعليقا على أثر ابن عباس: صحيح وهو موقوف بحكم المرفوع( [23]).اهـ هكذا قال الألباني فتأمل أعاذنا الله وإياك من الهوى. إن الألباني يقيم الدنيا ولا يقعدها إذا استدل أحد من العلماء بحديث ضعيف، ولكن الألباني يرتكب هنا ما هو أشد، إذ هو يجعل الموضوع صحيحا؟ فتأمل وسل الله الرشاد!!
فإن قيل: ربما قصد الألباني وابن تيمية وغيره أن الأثر أصله في البخاري، ويكون اللفظ الذي أورده ابن تيمية مروي بالمعنى عند غير البخاري كما صرح بذلك في أحد المواضع، والرواية بالمعنى جائزة.
قلنا: هذا غير صحيح، لوجوه؛ الأول: أن ابن تيمية جزم مواضع كثيرة أن البخاري أخرج الأثر بلفظ "فلما ماتوا عكفوا على قبورهم" كما سبق؛ وكونه صرّح في موضع أن البخاري رواه بالمعنى، فهذا لا ينفعه بل يؤكد أنه هو نفسه يعلم بأنه ليس في البخاري باللفظ الملفق، فلم نسبه في سائر المواضع إلى البخاري جزما؟
الثاني: أن اللفظ الملفق الذي أورده ابن تيمية لا وجود له في البخاري ولا في غيره. فإني قد بحثت عبر الحاسوب في آلاف كتب التفسير والحديث والتاريخ واللغة والفقه وغير ذلك فلم أجد هذا اللفظ إلا في كتب ابن تيمية وفي كتب أتباعه من بعده، فكل من ذكره بعده فقد أخذه منه تقليدا كابن كثير وابن القيم وابن أبي العز وابن عبد الوهاب والشوكاني والأفغاني سواء نسبه لابن عباس أو لبعض السلف.
الثالث: أن الرواية بالمعنى جائزة في العصور الأولى قبل التدوين، ولكن بعد التدوين يجب نقل الأحاديث من الكتب المسندة بلفظها [24]، بل إن الصلاح ذكر أن النقل من الكتب لا يجوز أن يكون بالمعنى ولا يجري الخلاف الواقع في رواية الأحاديث بالمعنى، وفي ذلك يقول: "ثم إن هذا الخلاف لا نراه جاريا - ولا أجراه الناس فيما نعلم - فيما تضمنته بطون الكتب فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف ويثبت بدله فيه لفظا آخر بمعناه فإن الرواية بالمعنى رخص فيها من رخص لما كان عليهم في ضبط الألفاظ والجمود عليها من الحرج والنصب وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطون الأوراق والكتب ولأنه إن ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غيره" [25].
الرابع: إن الرواية بالمعنى يُشترط فيها العلم بمعاني الألفاظ ومقاصدها لئلا يُحيل المعنى وإلا فلا تجوز الرواية بالمعنى اتفاقا [26]، وهذا الشرط غير متحقق هنا، إذ رواية البخاري لا ذكر فيها للقبور أصلا، بل هي مقحمة في الرواية المحرفة والملفقة إقحاما؛ فأي رواية بالمعنى هذه التي تقحم ألفاظا في الحديث تقلبه رأسا على عقب، ولاسيما ونحن في مقام الحجاج والمناظرة في أخطر المسائل التي رتب عليها ابن تيمية وأتباعه التكفير وسفك للدماء؟
والخلاصة أن أثر ابن عباس باللفظ الذي أورده ابن تيمية وأتباعه لا وجود له في البخاري ولا في غيره، وللأسف ما زال كثير من السلفية حتى وقتنا هذا ـ ونحن في ثورة المعلومات ـ ينقلون هذا الأثر المخترع وينسبونه إلى البخاري مقلدين ابنَ تيمية في ذلك، وينشرونه على الشبكة العالمية [27].
نعم، وللإنصاف أقول: إن كثير من أتباع من ابن تيمية مثل ابن القيم وابن عبد الوهاب وآخرين سبق ذكرهم في الحاشية ـ ذَكروا أثرَ ابنِ عباس المحرّف الملفق ولكن لم ينسبوه إلى البخاري كما فعل ابن تيمية، وإنما نسبوه لبعض السلف، بعد أن عَرفوا أن هذا الأثر لا وجود له في صحيح البخاري باللفظ المخترع؛ ولكن هذا لا يكفي، كان الواجب على هؤلاء ـ على الأقل ـ أن يصرحوا بأن ابن تيمية َوهِم في نسبة الأثر إلى البخاري، وهذا أضعف الإيمان، ولكن حتى هذا لم ينبّه إليه ابن القيم والآخرون الذين علموا بأن الأثر لا وجود له في البخاري.
ولو أن أحد الأشاعرة أو الصوفية وقع فيما وقع فيه ابن تيمية هذا لانهال السلفية عليه بشتى السبائب والشتائم واتهامه بالكذب والتضليل ووو.....، تماما كما فعلوا مع من قال من أصحابنا [28] بأن الرجل الذي جاء قبر النبي مستسقيا كما في أثر مالك الدار، هو الصحابي بلال المزني، فانهالوا عليه بالسبائب والشتائم والكذب [29]، مع أنه ورد في بعض الروايات أنه فعلا هو ذلك الصحابي ولكنها روايات ضعيفة كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح، فكان إنكاركم هنا فيما فعله ابن تيمية في أثر ابن عباس: أولى ؛ لأن هذا الأثر الذي أورده لا وجود له قط لا في رواية صحيحة ولاضعيفة ولا موضوعة.
فلماذا تقيمون الدنيا على خصومكم وتتغاضون عما فعله ابنُ تيمية، مع أنه فعَل ما هو أشنع كما هو موضح، فهل هو الهوى؟ فإيكم وإياه لأن الهوى عُبد إلها من دون الله، كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43]؛ ولاسيما وأنكم تحذّرون من مسائل القبور لئلا تتخذ القبور آلهة من دون الله حفاظا على توحيد الألوهية، فالهوى أولى بالتحذير والبعد منه، لأنه منصوص عليه في الآية السابقة بخلاف مسائل القبور فغايتها اجتهاد لابن تيمية.
ثم إن عزو ابن القيم وابن عبد الوهاب الأثر المحرف إلى بعض السلف، هو أيضا نسبة غير صحيحة، فهذا الأثر لم يرد في آلاف الكتب التي بحثت فيها ـ عن أحد ، لا عن السلف ولا عن الخلف إلى أن جاء ابن تيمية فسطّره في كتبه، فالعهدة عليه، فقول ابن القيم ومن تبعه إنه منقول السلف: لا يجدي، لأنه إصلاح للكذب بمثله، فكان الواجب عليه أن يقول هذا أثر باطل لا وجود له قط ولم يثبت مرفوعا ولا موقوفا ولا مقطوعا ولا عن أحد.
______________________________
[1] والواقع أنهم لم يتفقوا على ذلك بل أجاز ذلك الإمام أحمد بن حنبل في رواية عنه، وغيره، يقول عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتابه العلل ومعرفة الرجال ناقلا عن أبيه: سألته عن الرجل يمس منبر النبي ويتبرك بمسه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز؟ فقال: لا بأس بذلك. انظر: العلل ومعرفة الرجال ج2 ص492 رقم3243 ط. المكتب الإسلامي / بيروت-دار الخاني / الرياض سنة1408هـ - 1988م.
( [2]) الفتاوى الكبرى - (5 / 291)
[3] انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 184) ولكن دون أن ينسبه لابن عباس بل قال ابن القيم: وقال غير واحد من السلف : كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح عليه السلام فلما ماتوا عكفوا على قبورهم.اهـ ونقله هكذا عن ابن القيم عدد من السلفية منهم الفوزان في إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1/ 267)، ومحمد الفقيه في كتابه الكشف المبدي لتمويه أبي الحسن السبكي (ص: 205)، وابن عبد الوهاب في كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد (ص: 28)، وحفيده سليمان في تيسير العزيز الحميد (ص: 269)، والراجحي في مجانبة أهل الثبور المصلين في المشاهد وعند القبور (ص: 30)
[4] جاء في الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص: 286): بل فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك كما قال ابن عباس في قوله تعالى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ....هؤلاء كانواً قوماً صالحين في قومهم ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ...
( [5]) شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي– ط/ الرسالة (29)، وللأسف لم ينبه المحققان د. عبد الله التركي والشيخ شعيب الأرنؤوط إلى أن هذا لفظ ملفق، بل إنهما عزوه إلى البخاري وذكروا طرفه وهو: صارت الأوثان .... ثم بتروه ولم يتموه، موهمين أنه هو عين اللفظ الذي ورد في البخاري. وهذه خيانة علمية واضحة. ثم إني اطلعت على شرح الطحاوية بتحقيق الشيخ أحمد شاكر فلم أجد في متن الشرح أثر ابن عباس، لا بلفظ البخاري ولا باللفظ الملفق فالله أعلم بالحال.
[6] ص 9، ولكن دون أن ينسبه لابن عباس وإنما قال : وقال قوم من السلف:......كما فعل ابن القيم.
( [7]) أورده دون نسبته إلى ابن عباس وإنما لبعض السلف كما فعل ابن القيم سابقا، انظر: كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد (ص: 28)، وتيسير العزيز الحميد ص545
( [8]) جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية - (1 / 404)، وانظر: (1 / 130).
[9] صحيح البخاري - (4 / 1873(، بتحقيق أستاذنا د. مصطفى البغا.
( [10]) الفتاوى الكبرى (2 / 432).
( [11]) الفتاوى الكبرى (3 / 35)
( [12]) مجموع الفتاوى (1 / 151)
( [13]) مجموع الفتاوى (1 / 321)
( [14]) مجموع الفتاوى (3 / 399)
( [15]) مجموع الفتاوى (4 / 518)، ولم أجده في كتاب قصص الأنبياء من صحيح البخاري، وإنما هو في كتاب التفسير منه باللفظ المزبور أعلاه.
( [16]) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1 / 357)، و(5 / 75)، لابن تيمية، ط1/ دار العاصمة – الرياض.
[17] وتهمة التحريف أهون شيء عند ابن تيمية كان يقذف بها خصومه من الأشاعرة والماتريدية، حيث يعتبر أن تأويلهم لآيات الصفات من قبل التحريف، فأوقعه الله في نفس التهمة، لأن الجزاء من جنس العمل، بل هنا التهمة ألصق به إذ تأويل آيات الصفات بمعان لا تأباها اللغة ويعضدها السياق والسباق: من أبعد شيء عن التحريف كما قرره المحققون في موضعه، وأما أن تأتي بأثر مصنوع يخدم أهواءك، ثم تنسبه إلى صحيح البخاري وهو أبعد ما يكون عن صحيحه فهذا هو التحريف والكذب أيضا.
( [18]) مجموع الفتاوى - (17 / 455)
( [19]) مجموع الفتاوى - (27 / 79)
( [20]) شرح الطحاوية – ط/ الرسالة (29).
( [21]) جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية - (1 / 131)
( [22]) انظر مثلا: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، لابن قيصر الأفغاني (1 / 257)، ويقول الأفغاني هذا في كتابه الآخر"عداء الماتريدية للعقيدة السلفية 1/18و 322" يقول عن الإمام التفتازاني: "كذاب ملحد زنديق".اهـ والأفغاني هذا يكاد أنه لم يترك إماما من أئمة المسلمين إلا وأقذع في شتمه وتكفيره وسبه، اللهم إلا أن يكون ابن تيمية وشيعته، ولقد جمعت بعض شتائمه هذه في أئمة المسلمين وسوف أفردها بمقال خاص بإذن الله.
( [23]) تخريج الألباني لشرح الطحاوية ص20، دار الفكر العربي بالقاهرة.
[24] انظر: منهج النقد في علوم الحديث ص 228
[25] علوم الحديث لابن الصلاح ص214، بتحقيق أستاذنا د. العتر.
[26] علوم الحديث لابن الصلاح ص213.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق